آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

جوهر الحكاية ‎

ياسين آل خليل

هناك لحظة يمر بها كل إنسان، يشعر فيها بأن شيئًا يناديه من أعماق الداخل.. لحظة يسأل فيها نفسه دون خوف.. هل أنا أعيش كما ينبغي، أم أنني أكتفي بالمضي كما اتفق بقية القوم في وجهتهم..؟ الموت حقيقة لا يختلف عليها اثنان، لكنه ليس أعظم الحقائق. الحقيقة الأعظم هي.. كيف نعيش قبل أن نصل إلى حافة الموت..؟ كيف نمنح أيامنا قيمة، فتبدو أثقل من مرور الزمن نفسه..؟

هذه المقالة ليست دعوة للخوف من النهاية، بل دعوة لليقظة من الغفلة، يقظة تجعلنا نبني حياتنا بثبات كأن أمامنا وقتًا طويلًا، ونُهذّب أنفسنا كأن اللحظة القادمة غير مضمونة. الأغلب لا يهربون من الموت، بل من مواجهة حياتهم. يهربون من اعتراف بسيط لكنه مؤلم.. أنه بإمكانهم أن يكونوا أفضل مما هم عليه..! ولأن الاعتراف يتطلب شجاعة، يختار كثيرون الطريق الأسهل.. تجميل العيوب بدل إصلاحها، بناء صورة لامعة بدل بناء روح قوية، الركض خلف التصفيق بدل البحث عن المعنى. لكن الحقيقة تظل ثابتة.. الإنسان لا ينضج إلا حين يرى نفسه كما هي، بلا تزيين أو ابتداع، بعدها يبدأ التصحيح.

نحن نسمّي الراحة ”استقرارًا“، لكنها كثيرًا ما تكون مجرد حالة من الفتور. فالأيام المتشابهة لا تصنع إنسانًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل تُطفئه. والحياة الهادئة التي تسير بلا عواصف تصنع إنسانا رخوًا، كونها فارغة من المعادن. التحديات ليست علامة على أن القدر قاسٍ علينا، بل علامة على أن القدر لا يريد لنا أن نظل صغارًا. فالإنسان ينضج ويكبر حين يواجه وجعه دون تجميل، ويتغير حين تسقط عنه أوهام القوة الزائفة.

قيمة الحياة ليست في تركها ولا في التعلق بها، بل في عمارتها بحكمة، كأن الزمن أمامنا واسع، وفي تهذيب أنفسنا بصدق، كأن اللحظة التالية قد تكون آخر فرصنا. هذا التوازن يمنح الإنسان أجمل ما يمكن أن يمتلكه.. وعيٌ يُخطط، ووعيٌ يتطهر. وعيٌ يزرع جذورًا طويلة، ووعيٌ يستحضر النهاية بقدر يكفي ليجعله نقيًا. فلا إفراط في الدنيا.. ولا انقطاع عنها. وإنما حضور كامل.. وضميرٌ حيّ.

نبحث غالبًا عمن يخبرنا أننا بخير، لا عمن يأخذ بأيدينا لنصبح بخير. لكن الإنسان يحتاج إلى علاقات تشبه الضوء.. تكشفه، لتقول له الحقيقة ولو كانت مؤلمة، وتعينه على النمو ولو كان الطريق صعبًا. فالرفقة التي تُنعشك لحظة لا تكفي، أما الرفقة التي تُنعشك عمرًا، فهي التي تُريك نفسك كما يمكن أن تكون، لا كما أنت عليه الآن..!

في النهاية، ليس المهم أن نعيش طويلًا، ولا أن نرحل عبر نهاية مثالية، بل أن نترك خلفنا أثرًا يشبه أفضل ما فينا.. خيرًا خفيفًا لكنه دائم، نقاءً يظهر في أصغر أفعالنا، مواقف تثبت أننا كنا واقفين في المكان الصحيح، أثرًا يبقى حين لا يبقى الجسد. الزمن لا ينتظر أحدًا، لكن الإنسان يستطيع أن يفعل شيئًا أعظم من انتظار الزمن.. أن يملأ لحظاته بما يجعله أهلًا للذكر، أهلًا للرحمة وأهلًا للمعنى.

حين نعيش بروح تتقدم نحو المستقبل بثقة، وقلبٍ يقظ يعرف أن النهاية قد تكون قريبة، نجد أنفسنا وقد بلغنا أجمل درجات الرشد.. نَعْمُر الدنيا دون أن نغتر بها، ونُهذّب النفس دون أن نكسرها، ونستعد للآخرة دون أن نتخلى عن مسؤوليات الحياة. جوهر الحكاية أن هذه هي الحياة التي تستحق أن تُعاش.. حياة يعيشها الإنسان بكامل حضوره، كأن العمر يمتد.. وكأن الفرصة قد تختفي في أية لحظة..!