آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

أسعدني لقب ”دكتور“

أمين محمد الصفار *

كان هدفي - الذي لم يتحقق - من هذا المقال هو سرد قصة شخصية تجعل القارئ يبتسم وهو يقرأ، ثم تعليق بسيط عليه. سنام هذه القصة - التي حدثت قبل ثلاثة عقود تقريبًا - هو حسن الظن، حيث إشاعته في المجتمع يساهم في خلق بيئة مجتمعية صحية تساعد في بناء وتسهيل العلاقات، ويبعث في المجتمع روحًا إيجابية مفعمة بالأمل والثقة والابتكار والإنجاز، فهو محفز داعم لِلأفراد والمجتمع ككل، بل هو من أهم مظاهر جودة الحياة، فهو إكسير مجاني لحياة المجتمع.

حسن الظن هذا الذي دعانا له ديننا الحنيف لا يقتصر إشاعته وتعاطيُه بين أوساط المجتمع بين بعضهم البعض، بل هو أسلوب حياة نتعاطاه في مختلف مجالات الحياة، في التجارة والعمل الوظيفي وفي السفر كما الحضر. فهو مسؤولية تحتاج إلى حماية من التشويه وتعزيز وتجذير في المجتمع باستمرار.

أثبت مجتمعنا - بحمد الله - أنه في تطور مستمر في شتى الميادين والساحات، للقدر الذي صرنا نشاهد وفرة في حملة الشهادات العليا والمناصب المختلفة والخبرات الدقيقة والمميزة، فزاد تبعًا لذلك عدد حملة الألقاب الأكاديمية والعملية والاجتماعية المختلفة. هذه الحالة غير مسبوقة في منطقتنا، وكذلك الطموحُ الذي أخذ أشكالًا مختلفة وهو بالضرورة نتيجة لهذه الحالة سواء جزئيًا أو كليًا، لكن صار البعض يتوجس من هذه الألقاب من حيث الدقة أحيانًا أو بسبب بعض السلوكيات غير الصحيحة أحيانًا أخرى. هذا التوجس أصبح هاجسًا يتمظهر أحيانًا في حدود طبيعية، ولكنه في بعض الحالات يتعدى ذلك بكثير، فيصبح لدى البعض وكأن هناك مشكلة اجتماعية عويصة تهدد المجتمع وقيمه، وحساسية مفرطة تجاه من يضع أمام اسمه لقبًا أكاديميًا أو اجتماعيًا أو غيره من الألقاب.

لا أقول إن محاولة الإقناع في أمر كهذا قد تحتاج مساعدة من الملائكة المقربين، لكن فقط أطرح التساؤل التالي: هل الاستجابة لرغبات الآخرين بمناداتهم بأحب الألقاب إليهم وبلا شروط هي الأفضل والأكثر تأثيرًا، أم التحفظ والتحسس لتسودنا - بذريعة أو بأخرى - جميع العواطف السلبية تجاه تلبية رغبة أحدهم بتسميته بلقب ما يحبه؟ هل مثل هذا السلوك يمكن أن يكون تكفيرًا عن الممارسات المجتمعية السابقة في التندر وإطلاق مختلف الألقاب والبدع السلبية؟

إن التشخيص الصحيح لهذا التسامح هو حسن الظن بالناس، وهو خلق إنساني غير مكلف إلا للأنفس الشح. ومن تجربة شخصية، أقول لقد استمتعت كثيرًا بحسن ظن الآخرين، وأجدها إحدى النعم الكبرى التي وهبني الباري إياها وأعطتني الكثير. أبسط الأمثلة الجميلة بهذا الخصوص والتي لم تخطر في بالي أن تحدث لي يومًا، أن يُنادى لي - وأنا في بداية العشرينات من عمري - وفي وسط أكاديمي بلقب دكتور، لا لشيء سوى - حسن ظن أحدهم - وهو الذي توسط بي وسطه الأكاديمي بين زملائه وأصدقائه. لم أعرف حينها حتى كيف أتعامل مع موقف كهذا، فكنت أقول في نفسي ربما هي من باب المجاملة والتمني للمنادى أو من باب احتياط المنادي من الخطأ، لكنها تكررت كثيرًا مما جعلني أتوقف عن التصحيح لاحقًا أحيانًا.

لقد تعلمت من هذا الموقف وغيره، أن للصدقة أوجه عديدة، ومثل هذا التعامل لا يقل عن صدقة التبسم في وجه الأخ، وأن حسن الظن ليس قولًا نلفظه فقط، بل هو تطبيق عملي نمارسه أيضًا. وإننا بحاجة أيضًا في هذا الشأن لاستصحاب قاعدة المتشرعة في التسامح في أدلة السنن، ولا داع لضرب أمثلة من الشرق والغرب لإثبات ذلك، بل تكفينا تربيتنا الدينية لتكون هي المعيار.

إنَّ حسن الظن خلق قرآني، وهو مسؤولية تحتاج إلى الحصافة والوعي للقيام بها، كي نحصل على المكتسبات ونتفادى التأثيرات السلبية الكثيرة على الحياة نتيجة التخلي عنه. ففي بعض الأوساط أصبح حسن الظن كأنه مرادف للسذاجة، وأن من يدعو لحسن الظن يحتاج أن يقسم بأنه لا يقصد الدعوة للسذاجة، وأنه يحتاج أن يثبت أولًا أنه ليس ساذجًا.