آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

مبادرة صِلَةٌ ولمّة

عماد آل عبيدان

لم يكن نهار ذلك اليوم يشبه أي نهار مضى. الوجوه الصغيرة والشابة سبقت وجوه الرجال والأقدام وركضت أسرع من الوقت كأن الأرواح الصغيرة والشابة تعرف الطريق إلى الفرح حتى قبل أن تُفرش الأرض بأي بساط. مجموعة من أولاد أبناء الإخوة والأخوات وبعض الإخوة بقيادة الخال والعم العزيز أخي عبدالعزيز قرروا أن يصنعوا لحظة تعيد ترتيب ذاكرة العائلة. وقع الاختيار على مزرعة صغيرة هي منتجع أخي العزيز عبدالجليل حيث تتشابك الأشجار وتتنفس الأرض وهناك افتتحوا نوعًا طريفًا من التخييم… تخييم يلم الشمل أكثر مما يلم الحطب.

ما إن أطلق الأخ عبدالعزيز الفكرة حتى انطلقت الأرجل الصغيرة كسهام مسرورة. حمل الأولاد خيامهم وربطات الحبال وأدوات الشواء والتقط كل واحد ما يناسبه من أدوار. أحدهم يمد القماش فوق سارية الخيمة وآخر يفرش البساط بين الخيام وثالث يتعامل مع صندوق الأطعمة وكأنه كنز ثمين ورابع يفتش في حقيبة صغيرة عن لعبة تجهز ضحكة مباغتة. وفي زاوية هادئة بين شجرتين يجلس شبل صغير يستعد لحكاية نكتة جديدة ينتظر حضور الكبار ليعرض عضلاته الفكاهية كما لو أنه نجم الأمسية واللّمة.

هذه الحيوية صنعت مشهدًا لا يشبه مشاهد العطل والجمعات المعتادة. هنا في هذا الركن الزراعي الهادئ نشأت ألفة جديدة غابت طويلًا عن كثير من البيوت والعائلات. الأيام أسرع من قدرة الناس على ملاحقتها فالعمل يخطف الرجال والمدارس تخطف الصغار والهواتف تخطف الجميع إلى عالم لا يعرف معنى التقارب. حتى إن المناسبات تمر أحيانًا دون أن يعرف بعض الصغار أبناء عمومتهم معرفة حقيقية وكأن المسافات بين القلوب أطول من الشوارع.

غير أن هذه الرحلة أعادت ضوءًا كاد يخفت. عندما وصل الآباء مساءً وجدوا الأولاد أكثر ترتيبًا منهم وأكثر استعدادًا للدهشة والتناغم. جلس الرجال في دائرة دافئة وقام أحدهم يحكي حكاية قديمة من زمن مضى وآخر يروي طرفة من أيام الصبا وثالث يوزع كلمات طيبة تفتح في القلب ظلًا يشبه ظل شجرة عند العصر.

لم تكن الرحلة مناسبة للترفيه فقط فقد كانت محاولة صادقة لإعادة وصل ما تناثر مع السنوات. العائلة تحتاج إلى نبضات دافئة كتلك النبضات التي تعيدنا إلى ساحة نعيها ونتذكر فيها أن الرحم عزة لا تخون وأن تقارب الأولاد في عمر مبكر يبني روابط تصمد أمام تغيرات الزمن وتقلباته. الطفل الذي يشارك ابن عمه نصب خيمة يحمل صورته في ذاكرته طويلًا والولد الذي يتعاون مع ابن خاله في إشعال الفحم يتعلم من غير قصد أن القرب يبدأ من فعل صغير تصنعه اليد قبل اللسان.

الحديث عن تراجع الروابط الأسرية يتردد كثيرًا وكثيرون يشعرون أن العلاقات لم تعد كما كانت. هذا الشعور له جذور واضحة فالتواصل انكمش في بيوت عديدة والغبار توزع على الممرات التي كانت يومًا مليئة بالحركة. غير أن من يشاهد لمة كهذه يدرك أن الإصلاح قريب وأن دفعة واحدة من أبناء العائلة قادرة على تحويل الأسماء إلى وجوه والوجوه إلى محبة والمحبة إلى صحبة لا تهتز مع مرور الأيام.

كانت ليلة التخييم الزراعي أشبه باحتفال خفيف الروح قوي الوقع والنغم. ضحك الأولاد حتى مال أحد أركان الخيمة وتسابقوا بين الأشجار يتنقلون بمرح يلمع في أعينهم ولعبوا حتى تمازجوا. وحين اشتعل الفحم علت رائحة أعادت للكبار ذكريات افتقدوها من دون أن يشعروا. الأجواء صنعت عودة جميلة إلى مفهوم الصحبة واللحمة العائلية مفهوم انسحب منه الغياب خطوة خطوة عبر السنوات.

هذه اللمة هي فكرة قابلة لأن تتحول إلى عادة تمنح العائلة دفئًا متجددًا. باجتماع الأولاد تتجمع القلوب. وعندما يتساند الصغار في نصب خيمة أو إعداد طعام يجد الكبار أنفسهم يتنفسون بهجة حقيقية كأن المشهد يعيد إليهم أيامًا وذكريات لم يعودوا يعرفون الطريقة للوصول إليها وحدهم.

ما حدث في المنتجع والمزرعة الصغيرة يستحق التدوين بالفعل فالمجتمع في حاجة إلى لحظات كهذه تُذكّره بمعنى الاجتماع. الحاجة اليوم أكبر من أي وقت آخر فالأجهزة الإلكترونية لم تترك مساحة واسعة للإنسان كي يمد يده إلى قريبه. والأطفال صاروا أقرب إلى كرة افتراضية من قربهم لابن خال أو ابن عم يقف أمامهم في لقاء عائلي أو مناسبة.

هذه الرحلة أعادت رسم الصورة بصدق. الأطفال تعارفوا وتمازجوا واقتسموا ضحكاتهم وتفاعلهم ورسموا قصة يصعب أن تُنسى. الكبار أدركوا أن استمرار هذه المبادرة سيمنح العائلة غدًا أكثر دفئًا وأن ما يبدأ بخيمة صغيرة قد يتحول إلى جسر طويل من المحبة والألفة. والمزرعة اكتسبت في تلك الليلة عمرًا جديدًا كأنها صارت مسرحًا لفرح يُكتب بذاكرة العائلة كلها.

إن في الألفة جمالًا يغير وجه النهار وفي اجتماع الرحم سعادة لا يعرفها إلا من عاشها بقلبه. وما حدث في تلك اللمة كان نواة مضيئة تعيد المجتمع إلى نفسه كما لو أن الخيمة الصغيرة كانت بوابة إلى زمن آخر… زمن أقرب إلى الإنسان.