آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

الإنسان ذو البعد الواحد… الاستهلاك كمعيار جديد للهوية الاجتماعية

غسان علي بوخمسين

تشهد مجتمعاتنا في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في النزعة الاستهلاكية، حتى غدت جزءًا أساسيًا من تفاصيل الحياة اليومية. هذا التحول اللافت دفع باحثين اجتماعيين إلى استدعاء أطروحة الفيلسوف الألماني هربرت ماركوزه حول ”الإنسان ذو البعد الواحد“، في إشارة إلى الفرد الذي يُعاد تشكيل وعيه وسلوكه وفق منطق السوق، بحيث يصبح الاستهلاك هو زاوية النظر الوحيدة إلى العالم.

يرى ماركوزه أن الإنسان أصبح محصورًا في بُعد واحد يفرضه النظام الاقتصادي والتكنولوجي، حيث تُصنع رغباته واحتياجاته ويُعاد تشكيل وعيه ليصبح متكيفًا بدلًا من كونه ناقدًا. أصبح المجتمع، من خلال الإعلام والاستهلاك والتكنولوجيا، يدفع الفرد إلى الامتثال والاندماج، فيفقد قدرته على التفكير الحر وعلى مقاومة ما يُفرض عليه. وبذلك يتحول الإنسان إلى كائن تُحدده السوق أكثر مما تحدده قيمه أو إرادته، فتتقلص أبعاده الروحية والفكرية لصالح نموذج استهلاكي ضيق.

تحولات اجتماعية بارزة

المشاهدات الميدانية تكشف أن الحياة المعاصرة باتت تعتمد على مظاهر استهلاكية واضحة، من انتشار مراكز التسوق الضخمة إلى تضخم الحملات الإعلانية، وصولًا إلى ارتفاع معدلات الإنفاق على الكماليات مقارنة بالاحتياجات الأساسية. تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في هذه التغيرات، إذ تحولت المنصات الرقمية إلى ساحات لعرض أنماط الحياة الباذخة وتقييم الأفراد وفق ما يمتلكونه، لا وفق ما يقدّمونه من قيم أو إنجازات.

يرى خبراء الاجتماع أن هذا التحول أعاد تعريف الدور الاجتماعي للفرد، بحيث أصبح يُقاس بمدى مواكبته للمقتنيات الرائجة والمنتجات الجديدة. ومع مرور الوقت، يتشكل نموذج ثابت للفرد ”المستهلك“، وهو نموذج لا يرتكز على التفكير النقدي أو التفاعل الثقافي، بل على وتيرة الاستهلاك المتسارع.

تراجع الوعي لصالح السلع

أبرز ما يميز ”الإنسان ذو البعد الواحد“، وفق المختصين، هو تضاؤل قدرته على النظر إلى الواقع من زوايا متعددة. فحين يُحاصر الفرد بسيل من الإعلانات والرسائل التسويقية، ينصب تركيزه على متابعة الجديد والبحث عن العروض، ما يضعف تدريجيًا اهتمامه بالقضايا الاجتماعية والثقافية الأوسع. تشير أبحاث اجتماعية حديثة إلى أن نسبة كبيرة من الشباب أصبح يربط النجاح بالامتلاك لا بالإنجاز. ومع هذا التحول، تتراجع أولويات مثل التعليم والتثقيف والنشاط الاجتماعي، لتحل محلها أولويات مرتبطة بالمظاهر والاستهلاك السريع.

صناعة الحاجة قبل تلبيتها

التقارير الاقتصادية تؤكد أن السوق لم يعد يقتصر على تلبية حاجات قائمة، بل أصبح يخلق حاجات جديدة بشكل مستمر. فالإعلانات الحديثة تربط السلعة بأسلوب حياة مرغوب يجري التسويق والإعلان له، لا بضرورة فعلية. وبذلك تُصنع الحاجة قبل أن يدرك الفرد وجودها، ليجد نفسه جزءًا من دورة استهلاك لا تنتهي. ويشير اقتصاديون إلى أن هذه الآلية تُسهم في تحويل الفرد إلى عنصر داخل منظومة تسويقية واسعة، يُعاد تشكيل سلوكه وفق ما يفرضه السوق. ومع الوقت، يتكيف الفرد مع هذه المنظومة إلى حد يصبح معه غير قادر على تخيّل بديل فضلاً عن محاولة التغيير.

التأثير على الهوية والتماسك الاجتماعي

انعكاسات الظاهرة لا تقف عند حدود الفرد، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية. فالمجتمعات التي تتضخم فيها النزعة الاستهلاكية تميل إلى تشكيل هويات متقاربة، ما يؤدي إلى تراجع التنوع الثقافي والفكري. كما تصبح العلاقات الاجتماعية أكثر هشاشة، إذ تستند في كثير من الأحيان إلى المصالح المادية والمظاهر بدلًا من الروابط الإنسانية العميقة.

يحذر مختصون في علم النفس الاجتماعي من أن هذا النمط قد يؤدي إلى ضعف الانتماء الجماعي، لأن الفرد ينشغل بتحقيق متطلبات ”الصورة المثالية“ التي تلبي طموحاته ورغباته، أكثر من اهتمامه بالمشاركة في تطوير محيطه أو خدمة مجتمعه.

المنصات الرقمية… المعمل الأكبر لصناعة الرغبة

يلعب المحتوى الرقمي دورًا محوريًا في تعزيز هذه الظاهرة. فصور السفر والطعام والموضة تحضر يوميًا في شاشة الهاتف، وتقدم نموذجًا جاهزًا للحياة ”المثالية“. ورغم أن معظم هذه الصور ليست إلا لقطات منتقاة بعناية، إلا أنها تخلق لدى المتلقي إحساسًا بالنقص. وهنا يصبح الاستهلاك وسيلة لتعويض هذا النقص الوهمي. خبراء الإعلام يشيرون إلى أن الخطر لا يكمن في الصور نفسها، بل في تكرارها. التكرار يخلق ”معيارًا جديدًا“ للحياة الطبيعية، ومعه يصبح كل ما هو بسيط أقل قيمة.

مؤشرات الإفراط الاستهلاكي

يمكن ملاحظة عدة مشاهدات محلية تعطي مؤشر على تعمّق ثقافة الاستهلاك، أبرزها:

• ارتفاع حجم الإنفاق على الكماليات مقارنة بالحاجات الأساسية.

• تزايد عدد المراكز التجارية في المدن الكبرى.

• الاعتماد المتزايد على الشراء الإلكتروني المدفوع بحملات تسويق يومية مكثفة.

• التوسع في المنتجات قصيرة العمر التي تُجبر المستهلك على الشراء المتكرر.

• انتشار ثقافة ”الموضة السريعة“ التي تشجع على الاستهلاك المستمر. هذه المؤشرات، وفق خبراء، لا تعكس رغبات فردية فحسب، بل هي نتاج منظومة شاملة تشمل الاقتصاد والإعلام والثقافة الرقمية.

خطوات لاستعادة التوازن

ورغم هيمنة ثقافة الاستهلاك، إلا أن استعادة التوازن ليست بعيدة المنال. فإلى جانب المبادرات الاجتماعية والشخصية التي تشجّع على تبنّي أنماط حياة أبسط وأكثر وعيًا، يقدّم التراث الإسلامي دعوة واضحة للعودة إلى جوهر الإنسان والابتعاد عن التعلق المفرط بالمظاهر. ففي خطب الإمام علي تنبيه ثابت إلى أن الإنسان لا يُعرف بما يجمعه من أشياء، بل بما يقوم في داخله من قيم، حيث قال «قيمة كل امرئٍ ما يحسنه» وأن «الدنيا دارُ ممرٍّ لا دارُ مقرّ». وهي كلمة تختصر رؤيةً تجعل من الاعتدال في التعامل مع الدنيا خطوة أساسية لحفظ النفس من الانجراف وراء ما يلمع دون ما ينفع.

وتنسجم هذه الدعوة مع قيمة ”تزكية النفس“ التي تضع الإنسان أمام سؤال جوهري: ما الذي أحتاجه حقًا، وما الذي أتعلّق به فقط لأن الآخرين يفعلون؟ ومع إدخال هذا البعد الروحي في تفاصيل الحياة اليومية، يصبح الاستهلاك وسيلة لا هوية، ويستعيد الإنسان شيئًا من اتزانه الداخلي الذي فقده وسط ضغط السوق وازدحام المعروضات.

في الختام، إن مواجهة ثقافة ”البعد الواحد“ لا تعني رفض الاستهلاك، بل إعادة ترتيب الأولويات، بحيث يُعاد الاعتبار للإنجاز والإبداع، ويستعيد التوازن بين الضرورة والرفاهية. فالمجتمع المتماسك هو الذي يمنح الإنسان قيمة بما يحسن ويقدّم، لا بما يقتني ويعرض.