آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

نقد الشعر بين تهكم النظم وتعظيم التصوير

سراج علي أبو السعود *

الشعر من الفنون الإنسانية البديعة، وهو حاضر في ثقافات الأمم كلها. يعرّفه بعضهم بأنه الكلام الموزون، ويراه آخرون في كل قول جميل وإن لم يلتزم بوزن ونسق معين. سأعرض هنا ما أراه أنا شخصيا وربما أكون منفردًا به معيارًا لتقييم الشعر، مع علمي بأن هذا الرأي قد يختلف مع بعض مدارس النقد، معتذرًا لهم سلفًا عن موضع الخلاف.

في اعتقادي أن الكلام شعرًا كان أو نثرًا يكتسب قيمته من الفائدة التي يمنحها للمتلقي، علمية كانت أو أخلاقية أو حتى وصفية تمزج بين الاثنين. والاستثناء الوارد في قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ليس استثناءً قائمًا على مجرد الانتماء الإيماني، بل على ما يحمله شعرهم من مضمون يهدي ويُصلح ويضيف إلى الإنسان خيرًا في دنياه وآخرته. أما بعض المناهج النقدية الحديثة فقد اتجهت أحيانًا إلى تقديم جمال الصورة على المعنى، حتى أصبحت تحتفي بنصوص لا يجد فيها القارئ إضافة معرفية، ولا غاية أخلاقية، ولا حتى تصويرًا نافعًا ثريا. وقد يُساء فهم الشعر الذي يحمل مضمونًا علميًا أو فكريًا، فيوصَف بأنه نظم، في حين تُمدَح نصوص تعتمد على صور جميلة لكنها لا تحمل أثرًا فكريًا واضحًا. ولست هنا أنفي قيمة الصورة، بل أدعو إلى توازنٍ لا يُقصي المعنى في سبيل الشكل.

لأن الشعر الحق - كما أفهمه أنا - يجمع بين جمال الأسلوب وعمق الدلالة، فلننظر إلى بعض النماذج التي تحمل - برأيي الشخصي - هذا اللون الرفيع من القول: تأمل سيدي القارئ جمال وقيمة وهدى ما قاله الفرزدق:

مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ
كُفْرٌ وَقُرْبُهُمُ مَنْجىً وَمُعْتَصَمُ

يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالبَلْوَى بِحُبِّهِمُ
وَيُسْتَزَادُ بِهِ الإحْسَانُ وَالنِّعَمُ

مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَهِ ذِكْرُهُمْ
فِي‌ كُلِّ فَرْضٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الكَلِمُ

إنْ عُدَّ أهْلُ التُّقَى كَانُوا أئمَّتَهُمْ
أوْ قِيلَ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الأرض قِيلَ: هُمُ

ولاحظ جلالة ما قاله السيد حيدر الحلي:

وسامته يركب إحدى اثنتين
وقد صرت الحرب أسنانها

فإما يرى مذعنا أو تموت
نفس أبى العز إذعانها

فقال لها: اعتصمي بالإباء
فنفس الابي وما زانها

إذا لم تجد غير لبس الهوان
فبالموت تنزع جثمانها

رأى القتل صبرا شعار الكرام
وفخرا يزين لها شأنها

فشمر للحرب في معرك
به عرك الموت فرسانها

وانظر ما قاله عبد الباقي العمري:

وأنت ركنٌ يجير المستجير به
وأنت حصنٌ لمن من دهره فزعا

وأنت عينُ يقينٍ لم يزدهُ به
كشف الغطاء يقيناً أية انقشعا

وأنت من فُجِعَ الدين المبين به
ومن بأولاده الإسلام قد فجعا

وأخيرًا تأمل ما يقوله الدمستاني:

يا منفق العمر في عصيان خالقه
أفق فإنك من خمر الهوى ثملُ

تعصيه لا أنت من عصيانه وجلٌ
من العقاب ولا من مَنهِ خجلُ

أنفاس نفسك أثمان الجنان فهل
تشري بها لهباً في الحشر تشتعلُ

هذه النصوص وأمثالها تُشعل في داخلي علما وحكمة ويقينا وجمالا. فأين يمكن للمرء اليوم أن يجد مثل هذا الثراء؟ لقد أصبحنا في كثير من الأحيان نبحث في دواوين تمتد مئات الصفحات عن بيت يحمل علما أو فكرا أو خلقا فلا نعثر إلا على القليل النادر. وإلى أن نجد هذا اللون من الشعر، ستظل بعض القراءات النقدية المعاصرة تنظر إلى الشعر الصادق بعين الشك، وربما تعدّه تهكما عليه نظمًا، بينما تتسامح مع غموض لا يضيف للقارئ وضوحًا ولا معرفة. وما أرجوه أن تتسع دائرة التذوق لتحتضن الشعر الذي يجمع بين جمال الأسلوب وعمق المضمون معًا، فذلك كما أعتقد هو الشعر الذي يبقى، وبه ينهض الذوق، وتسمو الروح.