آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

اللغة الأم

محمد يوسف آل مال الله *

كنت واقفًا في أحد الأماكن العامة وإذا بي أسمع فتاة شابة تنادي إبنها.. ”آر يو ريدي بيبي، لتس غو“ «Are you ready baby, let’s go» وكأنّ لغتنا العربية عقمت عن هكذا نداء!!

أعلم أن الكثير من الآباء والأمهات يمارسون مثل هذا القول وغيره ويتحدثون مع أبنائهم بلغة غير لغة الأم وكأنّ الأمر عاديّا. ألا يعلمون مدى التأثير السلبي لهذه الممارسة على مستقبلهم؟

ينشأ الطفل ويكبر ولغته الأم أضعف ما يكون لديه ويشعر بأنّه أجنبي، وأقل ما في ذلك أنّه قد ينظر إلى أقرانه بأنّهم متخلفون.

ليعلم الجميع أنّه…

في زمنٍ تتسارع فيه اللغات، وتتشابك الثقافات، ويغري العالم الإنسان بأن يصبح نسخة عالمية بلا ملامح، تبقى اللغة الأم كجذرٍ صامت لكنّه صامد؛ يمنحك ثباتك حين تتغير كل الأشياء من حولك. ليست اللغة الأم مجرّد كلمات ورموز، بل مساحة الهوية، وذاكرة الروح، وأول نافذة رأينا بها العالم.

اللغة الأم… بيتك الأول:

في اللحظة التي ينطق فيها الطفل أول حرفٍ بلغته الأم، يكون قد فتح بابًا يصل بينه وبين أسرته، وبين وجدانه والعالم. هذه اللغة التي تحمل أصوات الأم، وصوت الأب، وضحكة الجدة، ليست مجرد وسيلة تواصل، بل سلسلة عاطفية تحفظ تماسك العائلة والمجتمع.

لغة تحفظ الذاكرة وتمنحك ذاتك:

لا توجد هوية بلا لغة. كل قيمة نعتز بها، من الحكمة إلى الشجاعة، من الكرم إلى الصبر، وصلتنا عبر لغةٍ حملت حكايات أجدادنا، ونقشت أسرار تاريخنا. إنّ فقدان اللغة الأم يشبه فقدان جزء من البوصلة؛ تختلّ اتجاهات الإنسان، ويظل يبحث عن معنى لا يجده إلّا في لسانه الأول.

الإبداع يبدأ من اللسان الأقرب إلى القلب:

الإبداع الحقيقي لا يولد في لغةٍ مستعارة. يولد في اللغة التي يفكّر بها الإنسان، والتي يشعر من خلالها. ولهذا كانت اللغة الأم أصل الفكرة، والبذرة التي تنبت منها القدرة على الابتكار، سواء في الأدب أو الفن أو العلوم أو حتى في العلاقات الإنسانية.

التنمية لا تتحقق بلغة الآخرين وحدهم:

الأمم لا تُبنى باللغات الأجنبية فقط، بل بالقدرة على إنتاج المعرفة بلغتها الأم. حين تفكّر أمة بلغتها، تُبدع بلغتها، وتدوّن علومها بأصواتها، فإنها تنتقل من دور المستهلك إلى دور الصانع. اللغة الأم ليست حاجزًا أمام التطوّر، بل منصة انطلاق نحو العالم، شرط أن نتمسك بها ونفتح نوافذنا في الوقت نفسه على لغات أخرى.

تمسكك بلغتك… تمسكك بكرامتك:

اللغة الأم تمنح الفرد ثقة داخلية لا تُشوَّه. حين تتكلم بلغتك بثبات، تشعر أنّك تقف على أرضك حتى لو كنت في أقصى العالم. إنّها مصدر قوة لا يراه الآخرون، لكنّك تشعر به في صوتك ونبرة كلماتك.

نخلص إلى أنّ التمسّك باللغة الأم ليس فعلًا ثقافيًا فقط، بل خيارًا وجوديًا وتنمويًا. إنّه إعلان بأنّ الإنسان لا يريد أن يعيش بلا جذور، ولا أن يذوب في عالم يضغط لتصبح نسخة من غيرك.

من يحافظ على لغته الأم… يحافظ على نفسه، على روحه، وعلى مكانه في هذا العالم، فلا تغرنّكم تلك المصطلحات الرنّانة على منصات التواصل الاجتماعي، فلغتنا الأم غنية بكل مصطلحات العالم.

رحم الله شاعر النيل الأديب السامق حافظ إبراهيم حيث يقول في قصيدته عن اللغة العربية…

رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي

وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ

فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي

أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ

إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي

فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى
وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي

وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ