التغيير المنشود والعولمة الكاسحة
يبدو أن الحديث في التحديث والتنوير والمراجعة الفكرية والتغيير المنشود في بعض المجتمعات آخذ في النقاش بين المد والجزر لعدة قرون، وبنتائج متباينة، وبعضها أوجد تغيّرات ملموسة في نطاق الأفضل كما الأسوأ، وفي عدة بقع جغرافية من الدنيا. العولمة التجارية والفكرية والإعلامية التي اجتاحت كل المجتمعات حول العالم أفرزت أنماط حياة وسلوكيات وتعاملات تتعارض مع مفاهيم المجتمعات التي عاشت المخاض وما زالت تعيشه.
البعض يعتقد أن استنساخ تجارب الأمم المتقدمة في الأتمتة والمكننة والصناعة كفيل بإحداث التغييرات المطلوبة؛ والبعض الآخر يرى الرجوع إلى الجذور الفكرية القومية أنجع، وآخر يرفع شعار ”الحل في الإسلام“ «أي نسخة الإسلام التي هو مقتنع بها مع سعيه في شطب الآخرين حتى لو كانوا من أبناء ذات الدين»، وآخر يفرض عاداته وأنماط حياته على العالم بقوته النووية لإحداث التغيير الذي يريده كما يراه، وآخر يرى أن الأدوات التقنية وتطبيقات التواصل الاجتماعي هي الأساس في إحداث التغيير… إلخ.
وجود أكثر من خارطة طريق يجعل التمحيص بأفضلها، والأكثر كفاءة، والأقوى تأثيرًا، والأسرع بلوغًا مهمّة تقع على عاتق رواد الفكر والمثقفين الأوفياء والعلماء المخلصين والنخب الاجتماعية الموجودون داخل كل مجتمع، عبر مناقشتها وتنقيحها ثم طرحها، وملاحظتها، وتسويقها، وحوكمتها كبرنامج / برامج تصبّ في إحداث التغيير الإيجابي المنشود. أتذكر أن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن طرح خارطة طريق من منظوره، ومفادها:
المسار الحداثي الصحيح هو الابتداء بتحديث الأخلاق، يليه تحديث الأفكار، ثم تحديث المؤسسات، فتحديث الآلات! فبدون مجاهدة للنفس، لا حرية للتفكير، وبدون هذه الحرية، لا روح علمية، وبدون هذه الروح، لا قدرة على الإدارة، ولا على الاختراع.
وأتذكّر طرحًا آخر مفاده: أن التغيير يتم عبر موجات صادمة متلاحقة ومتعددة.
وهناك مدرسة فكرية ترى أن التغيير نحو الأمور المنشودة يتم عبر خَرْط المجتمع في عالم الصناعة والإنتاج.
ينص القرآن الكريم بأن التغيير يبدأ من النفس، عبر تبنّي القناعات الناهضة، وهي بدورها تفرز سلوكًا جيدًا، والسلوك الجيد يجلّب عادات محمودة وأنماط حياة راشدة، واقتصاديات صاعدة، وأدوات إنتاج متنوعة، منها الابتكار والإبداع والنمو وفنون إيجاد الحلول. النص القرآني المقصود هو:
﴿إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: الآية 11]
من أُتيحت له الفرصة لزيارة مدينة شنزين الصينية Shenzhen - China في التسعينات من القرن الماضي، وأُتيحت له الفرصة لزيارة ذات المدينة في الوقت الراهن 2025 م، سيقف مذهولًا بالتغيير في أنماط الحياة، وحدوث الثراء، ومتانة العمران، والتحضر، والتطور، وناطحات السحاب. مدينة شنزين الصينية كانت الحديقة الخلفية، وأرض المستودعات، ومورد العمالة الرخيصة لجزيرة هونج كونج في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. الآن مدينة شنزين الصينية هي وادي السليكون الصيني، وأهم مدينة لإنتاج أجهزة الحواسيب الإلكترونية، وصناعة شاشات التلفاز الذكية، وطائرات الدرون، والأكثر جذبًا للشباب الصيني الطموح ذو التوجّه التقني الإلكتروني، ومحطة مهمة لتسويق التطبيقات الذكية في عموم الصين وبعض بقع العالم.
يرى البعض أن الدعاء التالي المنسوب لآل محمد ﷺ هو خارطة طريق عملية، ولامسة للواقع، ومتجانسة مع الآية القرآنية الكريمة المشار إليها أعلاه، لإحداث التغيير المنشود نحو الأفضل على كل الأصعدة، شاملة الإيمان، والأمن، والمال، والأعمال، والتكافل، والاستقرار… إلخ. ونص الدعاء:
«اللّهُمَّ ارزُقنا تَوفِيقَ الطَّاعَةِ وَبُعدَ المَعصِيَةِ وَصِدقَ النِيَّةِ وَعِرفانَ الحُرمَةِ، وَأَكرِمنا بالهُدى وَالاستِقامَةِ وَسَدِّد أَلسِنَتَنا بِالصَّوابِ وَالحِكمَةِ، وَاملأ قُلُوبَنا بِالعِلمِ وَالمَعرفَةِ، وَطَهِّر بُطُونَنا مِنَ الحَرامِ وَالشُّبهَةِ، وَاكفُف أَيدِيَنا عَن الظُّلمِ وَالسَّرِقَةِ، وَاغضُض أَبصارَنا عَن الفُجُورِ وَالخيانَةِ، وَاسدُد أَسماعَنا عَن اللَّغوِ وَالغِيبَةِ، وَتَفَضَّل عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهدِ وَالنَّصِيحَةِ وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجِهدِ وَالرَّغبَةِ وَعَلى المُستَمِعِينَ بِالاتِّباعِ وَالمَوعِظَةِ، وَعَلى مَرضى المُسلِمِينَ بِالشِّفاءِ وَالرَّاحَةِ، وَعَلى مَوتاهُم بِالرَّأفَةِ وَالرَّحمَةِ، وَعَلى مَشايِخِنا بِالوِقارِ وَالسَّكِينَةِ، وَعَلى الشَّبابِ بِالإنابَةِ وَالتَّوبَةِ، وَعَلى النِّساءِ بالحَياءِ وَالعِفَّةِ، وَعَلى الاَغنِياءِ بِالتَّواضِعِ وَالسِّعَةِ، وَعَلى الُفَقراءِ بِالصَبرِ وَالقَناعَةِ وَعَلى الغُزاةِ بِالنَصرِ وَالغَلَبَةِ، وَعَلى الاُسَراءِ بِالخَلاصِ وَالرَّاحَةِ، وَعَلى الاُمَراءِ بِالعَدلِ وَالشَّفَقَةِ، وَعَلى الرَّعِيَّةِ بِالإنصافِ وَحُسنِ السَّيرَةِ، وَبارِك لِلحُجّاجِ وَالزُّوّارِ فِي الزَّادِ وَالنَّفَقَةِ، وَاقضِ ما أَوجَبتَ عَلَيهِم مِنَ الحَجِّ وَالعُمرَةِ بِفَضلِكَ وَرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ».














