آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

في الأزمات تصنع الأفكار

عيسى العيد * صحيفة اليوم

الأزمات بطبيعتها تأتي مفاجئة، ليست في الحسبان كما يُقال. في بدايتها تكون مزعجة جدًا، إذ تعطل الروتين الطبيعي وتعوق مسيرة الحياة المعتادة. هي أشبه برجل يقود سيارته وقد حسب وقت الوصول إلى هدفه بسرعة معينة وفي وقت محدد، فإذا به يتفاجأ بتحويلة مرورية لوجود إصلاحات في الطريق. عندها ترتبك الظروف وتتغيّر الأسباب وتتأخر المواعيد نتيجة تلك التغيّرات المفاجئة، فيبدأ بالبحث عن حلول بديلة، كالاتصال بمن وعدهم بوقت وصوله ليخبرهم بتأخره لطارئ حصل في الطريق.

وهكذا هي الأزمات في بدايتها؛ تُحدث اضطرابًا وارتباكًا، لكنها ما تلبث أن تُعيد تشكيل الحياة بأسلوب جديد. فحين تُبتكر الحلول المغايرة لما كان قبلها، يتعوّد الناس على واقع مختلف يحمل في طيّاته إيجابية مضادة لما جاءت به الأزمة من سلبية.

كما كانت أزمة وباء - كوفيد -19-»كورونا»، التي شلّت حياة العالم بأكمله. ومع ذلك، وُلدت من رحمها حلول جديدة كالدراسة والعمل عن بُعد، والتباعد الجسدي بين الناس، حتى صار الجميع يتأقلم مع الواقع الجديد بروح إيجابية.

ومن خلال تلك التجارب يتضح أن الأزمات تصنع الأفكار، وتدفع إلى الابتكار والتكيّف. فهي تعلّم الإنسان كيف يفكر ويُبدع في البحث عن الحلول. فكل واحد يبتكر فكرة، ويأتي الآخر ليطورها، حتى تتكوّن منظومة فكرية جماعية تُنتج سبلًا جديدة للعيش في ظل الأزمة. قد تنجح بعض الأفكار وقد تفشل أخرى، لكن النتيجة دائمًا هي الوصول إلى طريق أفضل.

الأزمة، رغم إزعاجها، تظل نافعة؛ لأنها تُحرّك العقول وتُوقظ التفكير. فبعض الأزمات تُفتعل عمدًا لإزعاج الآخرين، بينما يُفتعل بعضها الآخر بقصد إيجابي لتحريك الفكر ودفع الناس نحو التغيير. فمثلًا، قد تخلق الشركات التجارية أو المؤسسات الحكومية «أزمة» مؤقتة عند إطلاق منتج جديد أو مشروع ضخم تحت ضغط زمني لرفع كفاءة فريق العمل واختبار قدراته.

وفي السياق ذاته، قد تخلق التحولات الكبرى أزمات مؤقتة، لكنها سرعان ما تُفرز فرصًا جديدة لمن يملكون روح المبادرة. ومثال ذلك ما حدث عند اكتشاف النفط وتأسيس الشركات النفطية، إذ تأثرت بعض المهن التقليدية واختفت تدريجيًا، فالتحق كثير من الناس بالوظائف الحديثة، بينما أصرّ آخرون على مهنهم حتى اندثرت. غير أن فئة ثالثة استفادت من هذا التحول وابتكرت مهنًا تتلاءم مع المرحلة الجديدة، فكانت تلك «الأزمة» نقطة انطلاق لعصر من التنمية والتطور.

والخلاصة أن هناك أزمات سلبية وأخرى إيجابية، لكن في كلتا الحالتين تظل الدعوة قائمة إلى التفكير والإبداع لمواجهة ما تفرزه من تحديات. فالأزمات، في جوهرها، ليست نهاية الطريق، بل بداية لطريق جديد.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محمد الخلفان
[ الدمام ]: 19 / 11 / 2025م - 7:29 م
?

مقال ثري يا أستاذ عيسى، يلتقط جوهر الأزمات كما هي في حقيقتها: لحظات ارتباك تُعيد ترتيب الوعي قبل أن تعيد ترتيب الواقع.
أعجبني تشبيهك بالتحويلة المرورية؛ فهي صورة دقيقة لما يصنعه الطارئ في حياتنا: يعطّل الطريق لكنه يكشف لنا طرقًا لم نكن لنلتفت إليها لولا أن خُيّرنا بالإكراه.

ولفت نظري في طرحك أنك لا ترى الأزمة في إطارها السلبي فقط، بل كمساحة اختبار لقدرة الإنسان على إعادة الاختراع. وهذا هو لبّ الفكرة: الأزمة لا تخلق الألم فقط… بل تخلق الإنسان الجديد.

تجربة «كورونا» التي استشهدت بها مثال حي؛ لم يكن الوباء مجرد حدث صحي، بل كان ثورة هادئة في أساليب العمل والتعليم وأنماط التواصل. لقد تغيّر العالم لا لأن الأزمة كانت قاسية، بل لأن العقل البشري رفض أن يستسلم لها دون أن ينتج رؤى جديدة.

وأوافقك في فكرة الأزمات المُفتعلة – سواء بشكل مقصود في الفرق وبيئات العمل أو كنتيجة لتحولات كبرى كظهور النفط – فهي تُظهر أي العقول تعيش على هامش الزمن، وأيها يلتقط إشارات التغيير ليبني عليها مستقبلًا.

والخلاصة التي ذكرتها تختصر الأمر بدقة:
الأزمة ليست نهاية طريق… بل بداية طريق لم يكن ظاهرًا من قبل.
ولعل أعظم ما تصنعه الأزمات ليس الأفكار فقط، بل الشجاعة على التفكير بطريقة مختلفة.

مقال ملهم، وقراءة تستحق الامتنان