آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

جَخّة.. كَشْخَة.. غَناتي

عماد آل عبيدان

في القطيف كما في مدن الخليج لا تتكون الكلمات على عجل إذ تنشأ بهدوء يشبه انفتاح النفس على نفسها. تخرج من أفواه الناس وهي تحمل طبقات من روح المكان وتدخل الأذن بصدق يسبق معناها ثم تستقر في القلب كأنها جزء من ذاكرة أعمق من العمر نفسه. ومن بين ما بقي حيًّا فوق الألسنة تتقد وتتلألأ ثلاث كلمات لا يبدو أن الزمن استطاع أن ينتزع بريقها: جخّة وكشخة وغناتي.

ولأنها خرجت من نبرة الناس قبل أن تخرج من القواميس فقد ظلت تمشي جيلاً بعد جيل دون أن تفقد خفتها وبريقها.

كل كلمة منها تحمل نبض قصة:

وجه يستعد لصباح جديد وخطوة تبحث عن حضور أجمل أو قلب يريد أن يطمئن دون أن يشرح ما يثقله.

وهذا ما جعلها تُستعمل في البيوت، ثم تنتقل إلى لوحات متاجر الأزياء والعطور ثم تعود لتعيش ببساطتها بين الناس. ترى ”كشخة“ على واجهة محل و”غناتي“ على قارورة عطر و”جخّة“ شعارًا لمنتج شبابي ومع ذلك حين تنطقها أمّ أو صديق، تستعيد الكلمة أصلها الأول وتستعيد معها نبرتها التي لا يستطيع السوق تقليدها لأصالتها.

في القطيف صباح ذلك اليوم وقف شاب عند باب بيته يمرّر يده على عقاله ويضبط وقفته كأنه يفاوض يومه على بداية أفضل وأجمل. يلمح أخوه هذا الترتيب الصغير فيسأله بنبرة نصفها دعابة مِزاح ونصفها محبة:

«ها… اليوم ناوي تصير جخّة؟»

تنسحب من كتفي الشاب طبقة من التوتر ويضحك بارتياح. لم يتحدث أحد عن ماركة الثوب أو نوع العطر فكل ما حدث أن كلمة واحدة التقطت رغبته الخفية في يوم ألطف فحملتها بسلاسة وجعلت اللحظة قابلة للتنفس.

وفي مكان آخر يدخل شاب على أصدقائه بثوب مكوي بعناية وبريق واضح في ملامحه. يتبادلون نظرات مشاغبة قبل أن يرمي أحدهم التعليق الذي يحرّك الجو كله:

«أقول… جاينا اليوم كشخة كأنك رايح تخطب!»

تتعالى الضحكات ويتظاهر هو بالاحتجاج لكنه يجلس وهو يشعر أن حضوره صار أخف وأن هذا التعليق القصير احتفظ له بمكان جميل بينهم.

ثم تأتي غناتي… تلك اللمسة التي لا تحتاج إلى شرح ولا إلى مناسبة. تتعثر طفلة صغيرة بخطوتها الأولى خارج البيت فتنحني أمها وتقترب منها وتقول بصوت خافت يسبق كلمات كثيرة:

«تعالي يا غناتي… تعالي حضني.»

لا تحتاج الطفلة إلى معرفة معنى الكلمة ويكفيها صوتها لتتوجه فورًا إلى صدر امها وكأن النداء فتح لها بابًا في الهواء.

وتحضر الكلمة أيضًا في العلاقات التي تحتاج إلى كتف وطمأنة دون كلام طويل. يجلس صديق منهك أمام آخر يحاول أن يرتب ما يريد قوله فيتعثر في جملة ويسكت عند أخرى ثم يسمع:

«اسمع يا غناتي… ترا ما في شي يبعدك عنا.»

لا تحليل لا معالجة لا جملة ثقيلة… فقط كلمة تشبه يدًا توضع على الروح.

ولعل أجمل ما يعيد هذه المفردة إلى الحياة هو ما يحدث يوميًا في رسائل أحد أعز الناس إلى قلبي، الصديق العزيز الأستاذ عادل أبو السعود.

لا تخلو رسائله من توقيع ثابت يسبق الود كله: ”يا غناتي“.

تأتي الكلمة في نهاية رسالته وكأنها ختم دفء تبرق بخفة وتذكرني أن بعض المفردات تتجدد ما دام هناك من ينطقها بصدق نية ومحبة.

وما بين هذه القصص الصغيرة ينكشف سر هذه الكلمات:

أنها ليست للمديح ولا للمباهاة ولا لإكمال الحديث

إنها إشارات تخفف عنا وتفتح نافذة صالحة للهواء داخل مشاغل يومنا.

”جخّة“ تمنح انشراحًا

”كشخة“ تمنح قبولًا

”غناتي“ تمنح حضنًا معنويًا لا يحتاج إلى ذراع.

ولعل ما يزيد قيمتها أنها لم تبقَ في حدود البيوت. إمتدت إلى الأسواق وصارت أسماء لعلامات تجارية في الموضة والعطور والإكسسوارات. لكنها رغم ذلك لم تفقد رائحتها الأولى إذ يعود الناس في المساء ليستخدموها بالطريقة نفسها التي استخدمها أجدادهم: خفيفة ودافئة ونابعة من القلب تحمل طابع المكان وروحه.

هذه المفردات تحولت مع الزمن إلى شيء يشبه شبكة صغيرة من الطمأنة المتناثرة بين أفراد المجتمع. كل كلمة منها تعرف متى تُقال وكيف تلتقط التعب قبل أن يظهر على الوجه وكيف تضع على النفس قماشة هادئة تخفف عنها.

ولهذا، حين يسمعها الشخص الصحيح في اللحظة الصحيحة يشعر أن العالم صار أقل حدة وأن يومه عاد يمكن احتماله وأن قلبه ما زال متصلاً بقلوب تعرف كيف ترفع ثقل الحياة عنه بكلمة واحدة.

ثلاث مفردات تحمل في داخلها قدرة على إعادة الإنسان إلى ذاته، هناك من يراه، ومن يقدّره، ومن يمد له حبًا صغيرًا على هيئة صوت يقول:

أنت… غناتي.