آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

ذاكرة العالم

رائدة السبع * صحيفة اليوم

كل ما تحتاجه هو دقيقة واحدة هناك.. دقيقة يتبدّل فيها وعيك، وتبدأ بالسؤال: من أين تأتي هذه الطمأنينة؟ ولماذا يبدو المكان كأنه يمتحن حدسك قبل أن يكشف اسمه؟ لا شيء يجيبك، ومع ذلك تشعر بأنك تقف أمام فكرة تتنفس قبل أن تكون مدينة أو حيّزًا مرئيًّا.

التضاريس تمتدّ أمامك بوصفها حارسًا يعرف أكثر مما يقول، وتمنحك الإحساس بأنك ضيفٌ على تاريخ لم يُكمل جملته بعد.

وعند حلول الليل، تتدلّى النجوم فوق الامتداد الواسع كأنها صفحة ضوء كُتبت بعناية. تبدأ الصخور في استرجاع ذاكرتها، لا بصوت، بل بإحساسٍ يمرّ تحت الجلد. المشهد كله يبدو كأنه يعيد ترتيب الزمن؛ يذكّرك بأن الأشياء العظيمة لا تحتاج إلى صخب كي تُخلّد نفسها، وأن الصمت حين يستقيم يتحوّل إلى لغةٍ كاملة.

هنا، الجمال لا يعلن حضوره، بل يتقدّم نحوك بخفةٍ تُوقظ الحواس. الهواء نفسه يشعر وكأنه يتدرّب معك على معنى الدهشة. السماء فوقك تبدو كأنها تزور المكان للمرة الأولى، وكأنها هي الأخرى تتعلّم من هذا الاتساع درسًا غير مكتوب.

في هذا الامتزاج، تتداخل الأزمنة: أثر القوافل، ظلال الملوك، خطوات الذين مرّوا وتركوا جزءًا من حياتهم على الحجر. ومع ذلك لا يبدو الماضي عبئًا، بل نافذة تُفتح لقراءة الحاضر بنبرة أعمق. الإرث الحجري تحول من ذكرى صامتة إلى خطابٍ حديث؛ خطاب يتكلم بلغات الفن والمعرفة والضوء.

ومن قلب الصحراء، تتوهّج المرآة اللامعة كجسرٍ بين زمنين: مبنى لا يعكس الطبيعة فحسب، بل يوقظها. مرآة تعيد ترتيب الضوء بحيث ترى تفاصيل لم تكن تراها في النهار العادي.

هناك، يلتقي التاريخ بالموسيقى، وتتشابك الذاكرة مع لمعان اللحظة، فيتشكّل معنى جديد للأصالة.

لقد تحوّل الحجر من صمتٍ طويل إلى حضور عالمي. لم نغيّر ملامحه، بل أحسَنّا الإصغاء إليه، حتى أصبحت لغته مفهومة للجميع. وهكذا عاد المكان يتحدث للعالم بلغة لا تحتاج إلى شرح، لغة تُشبه الفرح الهادئ الذي يكتفي بأن يُرى.

وحين وقفت أمام المرآة الضخمة لألتقط صورة، أدركت أن الانعكاس الحقيقي لا يخص الوجوه بل الرؤية. رأيتُ الأرض تعيد تكوين جمالها، ورأيت السماء تنحني نحو الجبال بخطوة واحدة، كأن المشهد كلّه يُعيد تعريف معنى القرب.

وهكذا، لم تعد العُلا مكانًا يُزار، بل فكرة تُروى؛ حكايةٌ عن وطنٍ أدرك سرّ الجمال: أن الثبات لا يُناقض التجدّد، بل يولده. العُلا ليست مجرد مدينة.. إنها ذاكرة العالم.