آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

يا أخي لا تمل بوجهك عني، ما أنا فحمة ولا أنت فرقد

سلمان العنكي

العنوان بيت من قصيدة للشاعر المعروف إيليا أبو ماضي، مطلعها: ”نَسِيَ الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد“. عرض من خلال أبياتها صفات ذميمة بتساؤلات تنكرية استغرابية يستنطق بها المشاعر جديرة بالتأمل، مفرداتها حوت توجيها وتوبيخا، منها الحث على حسن التعامل والبعد عن سوء المعاملة، مخاطبا الضمير والإحساس وصولا إلى بيان المصير المحتوم المشترك بين الخلائق دون تمييز حين قال: ”أنت مثلي من الثرى وإليه، فلماذا يا صاحبي التيه والصد؟“.

السؤال: أين واقعنا من شطري القصيدة؟ مع الأول أو الثاني؟ أم نناور بينهما، نقابل بوجه ضاحك ونصعر خدا، ونمشي مرحا بالآخر؟ نرفع هنا، ونحقر هناك، نتيه ونعربد. أغلبنا عادته النكران والتهميش والاستعلاء، وإن قرب منا المعني رحما أو بعد عنا، ونالت منه السنون ومن أصابته فجائع الدهر، وفقد عزه عندنا، بعضنا ”فحمة“. هذه حقيقتنا وإن حاولنا منها الهرب. وفي المقال لنا ثلاث وقفات:

الأولى: المجتمع عامة

«أ» العرقية: العرب خيرة الخافقين يتغنى بأمجادها شجاعة وكرما ونخوة، متناسيا ظلما وقتلا ودفن بنات أحياء، ويعيب جبن وبخل وأنانية سواهم، لا يذكر لهم محاسن أو فضائل أو مواقف لأنهم أعاجم لا قيمة لهم في نظره. آدم ونوح وسليمان، من أي صنف يراهم؟ ذات اليمين أم الشمال؟ لست أدري.

«ب» القومية: وهي أضيق من سابقتها، لها ثقافات وعادات وسياسات منحصرة في مجتمعها يرتقون بها على غيرهم كما يزعم أصحابها.

«ج» المناطقية: أهل المدن نحن سادة ونسود. كل من حولنا تبع لنا وخدم. وإلى القرى أجدادنا انتصروا على جارتنا في عدة حروب، تغلبوا عليهم في قضايا الخلاف. وحتى القرية الواحدة، وسطها أرقى من أطرافها؛ إنهم ليسوا بكفء في الرفعة ولا في النسب والشرف. والخلاصة: الكل يدعي وصلا بليلى، وهي عنهم مشغولة، لا تسمع، لا ترى، لا يعنيها أمرهم، لا تعترف بهم؛ مما يدلل على كذب دعواهم. ولا تزال هذه الانتماءات الجاهلية قائمة معمولًا بها عند البعض ولو من خلف الستار.

الثانية: الأفراد

«أ» التميز: في المال والعلم والقبيلة. يتباهى بالثري والوجيه والبارز في مجال من عشيرته بتكبر وغرور. حوى المال كيس غيره فتمرد. وربما صاحب الشأن متواضع: أبوه، أخوه، ابنه. رجل دين صار هو الأمير بين قومه، أصبح ”الفرقد“، يجب أن يُقدَّر ويُحترم. أو كان من عائلة معروفة يفخر، وفي نفسه بلغ الجبال عرضا وطولا. بالأمس كانت هذه، واليوم بادت. يحلم بماضيها المقبور، ولا يكلف نفسه عملا يسمو به. يا هذا، ما لك وما أنجزوه؟ المرء بما يحسنه لا بفعل غيره.

«ب» المستغل: البسطاء والمتخلفون فكرا وذوو العاهات عنده ألعوبة ومادة يتسلى بها، يعزف الأوتار على جراحهم، يهرج، ينبز، يشنأ، ويقلد كوميديا ساخرا ليضحك عليهم الحضور، ”كأنهم فحم يشعل فيه نار للتدفئة“. يا مستهزئ، لا تنس يوم حشرك تنال فيه جزاءك، تعلو في وجهك الضحكات شماتة بك.

الثالثة: الوالدان والأرحام

«أ» الوالدان: أكتفي بذكر حالة: هجر أمه - التي هي وحيدته - بعد أكثر من عشر سنوات. حصل بينهما اتصال ليطلب منها مالا، عاتبته بلهفة وشوق وحنين، فغضب، فكان رده عليها قبيحا لا أظن له سابقا، عندما قال: لا يشرفني أن تكوني لي أما، أنت متدنية المستوى، لا تناسبين مكانتي الاجتماعية، وعار علي وخجل أن أُسمّى بك بين مطاريشي. أنت فحمة وأنا فرقد، فأين أنت مني؟ وأقفل الهاتف في وجهها، فسالت دموعها ألما وحسرة، وقلبها يحترق. أسفي، أهذا جزاؤها؟

«ب» الأرحام: بين أبناء العم من الجنسين تُغذّى الفروقات إلى حد التباين في اللباس والحديث والتعليم والخدمات والأسفار. صنف من الأولاد يرفعون أصواتهم عالية قائلين: طأطأتِ الرؤوس لنا، مكاننا الثريا، وأبناء عمومتهم في الثرى أسفل الوادي يقتاتون الورق. تفاوت بداية الفراق. والبنات يرددن: أبونا طارق، نمشي على النمارق، إن دخلنا مجلسا نفارق، وأبوكم خلف أتانه في فقره غارق. لا صلة، لا عناق، لا شيء يجمعنا. قضي الأمر: لنا القصور، ولكم البور. لا نشارك أفراحكم، لا نحضر جنائزكم، لا نعيد مرضاكم، لا نتفقد أحوالكم، لا نحن منكم ولا أنتم منا. مزقت الوثائق، طمست الأدلة، أخفيت المعالم.