آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 12:03 ص

أخناتون

هناء العوامي

نظرت ”نيفير“ إليه غير مصدقة، بينما رمقها زوجها ”أمنحوتب“ بنظرة انتصار، وكأنه إذْ أثبت وجود الحديد، فهو يثبت تلقائياً أن إله الشمس هو الوحيد الجدير بالعبادة!

هو كان يعتقد بأن الحديد هبة الخالق للذين أدركوا أنه لا يوجد سوى خالق واحد للكون والحياة…

”إن الشمس التي تنير حياتنا هي التي تنبت الزرع، وتبث الحياة في الكائنات، نور آتون، لولاه لكانت الدنيا جحيماً بارداً، ألا ترين دفء يديك الناعمتين مقابل برودة مومياء ميتة؟“

عبست ”نيفير“ بضيق لمقارنتها بمومياء، فضحك ”أمنحوتب“.

كان النوخذة الكبير الذي جاء من ”مجان“ بسفن محملة باللبان والمر والبخور قد قدم له سيفاً من الحديد. لم تكن هي تؤمن بوجود الحديد، وكانت تشعر بالفخر لكونها أكثر عقلانية من أن تصدق هذه الخرافات.

كان واضحاً بالنسبة لها… وغائباً بالنسبة له هو كالعادة… أن التاجر جاء بالهدية بهدف رؤية هذا الملك الغريب الأطوار الذي يدعو إلى التوحيد، وجاءت رؤية الزوجة الحسناء بمثابة منحة إضافية!

التوحيد!؟ فكرت بتهكم، هل سيفعل هذا الإله الواحد كل شيء بمفرده؟ ليس ”الكمتيون“ هم الوحيدين الذين يؤمنون بآلهة متعددة، بل إن كل الشعوب التي سمعت بها هم كذلك.

لم توافقه، لكنها كذلك لم تعترض، وهي عازمة على أن تدعمه وحسب، لكنها كانت تتمنى لو لم يكن ذلك بهذه الصعوبة.

منذ أعلن عقيدة التوحيد، وقرر نقل مقر الحكم بعيداً عن معبد ”آمون“، قلة كانوا من تجرأ على الاعتراض علناً، لكن بدا عدم الراحة لقراراته واضحاً حتى في عيون الناس الذين كان هو يريد حمايتهم من فساد رجال الدين! بل هم بالذات!

الوصيفات يشعرن بالخوف في حضوره رغم أنهن لا ينظرن إليه مباشرة أبداً، ورغم حسن أخلاقه الواضح مع الجميع.

النحاتون صمموا له تماثيل لا تشبهه، بل بدا أنهم يسخرون منه بتشبيهه بالنساء، لكنه كان يتعامل مع الجميع بطول بال يُحسد عليه وذلك بالرغم من حزمه.

أما ذلك التاجر فكان ينظر إليه كلما سها عنه وكأنه يتفحص طائر ”الرخ“، بعد أن وجد أحدهم أخيراً! يحسب أن أحداً لم يلمحه، لكنها هي ترى كل شيء، وتفطن إلى كل شيء، وهي عازمة على حماية الرجل الذي تحبه…

سوف تدعمه، ولا يهم إن كانت مقتنعة بما يقوله أم لا.. هذا الرجل لي.

أكثر ما كان يغيظها هو نظرات كهنة ”آمون“ الساخرة له من وراء ظهره، بل إنها تعتقد بأنهم يتعمدون أحياناً جعلها هي تلاحظ.

بالأمس رمقها كاهن عريق بنظرة ساخرة متحدية واضحة، تصنعت البرود وكأنها لم تلاحظ، ثم طلبت صباح اليوم من جاريتها أن ترسم لها الكحل مطابقاً لنقش كحل ”أخناتون“. ”أخناتون من؟“ قالت الجارية بدهشة، فنظرت لها الملكة نظرة حادة جعلتها توقع المكحلة على الأرض، وبينما تلعثمت الجارية بالاعتذار أرجعت الملكة ظهرها باسترخاء للخلف وأغمضت عينيها مفكرة: ”التوحيد هه؟“.

هي لا تعرف شعباً موحداً سوى بعض القبائل البدوية في أرض ”كنعان“، يبدو أنهم يرون في الاكتفاء بإله واحد نوعاً من الزهد! أو لعلها رحمة بجمالهم التي تحمل جميع أمتعتهم بما فيها تماثيل الآلهة، فتلك القبائل دائمة التنقل ولا تستقر طويلاً في مكان واحد… ولكن حتى أولئك لم يكونوا بهذا الوضوح في إنكار بقية الآلهة.

هذا كذلك قد يضر بالعلاقات الدبلوماسية مع بعض الشعوب التي تقدس إلهاً ما أكثر من غيره، حين يكون إلهك أنت هو الوحيد الجدير بالعبادة فربما يفهم الآخرون أنك لا تتمنى الخير لهم.

ولكن ليكن، هي تحبه، وإذا كان هو يريد أن يكون اسمه ”أخناتون“ فليكن، وإن أراد أن يبني مدينة يسميها ”أخيتاتون“ ويجعل فيها مقر حكمه فليكن.

”لو سئمت رسمة الكحل القديمة يا سيدتي فأنا قادرة على رسم تصاميم جديدة له“ قاطعت الماشطة أفكارها…

التفتت لها الملكة ”نفرتيتي“ بدهشة، كان واضحاً أنها لم تفهم سوى أن ”أخناتون“ اسم مذكر، لم يكن يهمها على الإطلاق من يكون هذا، كما لم تكترث لو كان ذلك الاسم يخالف قواعد الدين التي اعتادت عليها، لماذا ترغب الملكة - بحق السماء - في رسم عينيها كما يفعل الرجال!؟

”ارسمي لي الكحل كما يفعله الملك، تماماً.“

صدعت الجارية بالأمر فوراً…

- ”هلا أغمضت عينيك من فضلك؟“

كانت الماشطة منغمسة في عملها كأنها كانت تؤدي جراحة دقيقة ما…

وحين نظرت ”نيفرِتي“ إلى صورتها في المرآة أجفلت لأول وهلة، إذ حسبت الملك قد دخل عليها فجأة، كانت فعلاً رسمة الكحل مطابقة لعيون الملك. ”أنا آسفة يا سيدتي.. لو أردت أن…“ قالت الماشطة بحرج.

لكن الملكة فردت كفها أمامها قائلة: ”بالعكس، هذا ما أردته تماماً، وأشكرك على عملك المتقن“. قالت ذلك ثم أهدتها مشطاً من العاج الموشى بالذهب، وقد فرحت المرأة به كطفل يعطى حلوى العيد.

وحين رآها ذلك الكاهن تضع كحل الملك وصلته الرسالة كاملة، نظرة واحدة لوجه الملكة كسرت عينه، فسارع إلى مغادرة قاعة العرش مرتبكاً…

لكن ذلك الانتصار وتلك التجربة الروحية لم يدوما طويلاً..

بعد وفاة الملك، تغير اسم ابنه من ”توت عنخ آتون“ إلى ”توت عنخ آمون“.