آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

أنصار الإمام الحسين (ع): الحر بن يزيد الرياحي

محمد يوسف آل مال الله *

الحرّ بن يزيد الرياحي «يُقال: يزيد أو زياد، وكلاهما مذكور في المصادر» هو أحد أبرز الشخصيات في واقعة كربلاء، وقد خُلّد اسمه رمزًا للتوبة والشجاعة والوعي المتأخر الذي تحوّل إلى بصيرة خالدة.

نسبه ونشأته: هو الحرّ بن يزيد بن ناجية بن قَعْنَب الرياحي التميمي، من أشراف الكوفة وفرسانها المعدودين، وكان معروفًا ببطولته وكرم نسبه ومكانته بين قومه. وكان في الأصل من أنصار الدولة الأموية، مكلّفًا من عبيد الله بن زياد بمهمة اعتراض الإمام الحسين .

حين تنتصر الإرادة على الماضي:

في كل إنسانٍ مساحةٌ خفية من الضوء، قد تظلّ محجوبة تحت طبقاتٍ من الخوف أو الخطأ أو التردد، حتى تأتي لحظة صدق واحدة فتزيح الغشاوة، وتكشف عن الإنسان الحقيقي فينا.

ففي التاريخ رجالٌ وُلدوا أحرارًا، ورجالٌ صاروا أحرارًا حين واجهوا أنفسهم. والحرّ بن يزيد الرياحي من هذا الصنف الثاني؛ لم يكن بطلاً لأنّه قاتل فقط، بل لأنّه تجرأ على أن يقول ”كنتُ مخطئًا“ في زمنٍ لا يُغفر فيه الخطأ.

لقد كان الحرّ قائداً عسكريًا في جيش الكوفة، مكلفًا بمهمةٍ رسمية: إيقاف الإمام الحسين بن علي عن المضيّ إلى الكوفة. رجلٌ يؤدي واجبه، كما يقول المنطق البارد، لكنّه في داخله كان يسمع شيئًا آخر… صوت الضمير الذي لا يُكتم طويلًا.

بين الأوامر والضمير:

كان الحرّ في موقعٍ رسمي، جنديًّا يأتمر بأوامر السلطة، ورجلاً يحسب للسياسة حسابها، لكنّه حين وقف أمام الإمام الحسين بن علي ، لم يكن يقف أمام خصمٍ عادي، بل أمام صوت الحق الذي يُربك كل باطل. وربما بدأ الصراع في داخله منذ تلك النظرة الأولى إلى الإمام الحسين ، فبينما كان الجند يرون أمامهم ”خارجًا على الدولة“، كان الحرّ يرى شيئًا آخر: طمأنينة، وصدقًا، ونورًا لا يُشبه نور الملوك.

التحول العظيم واليقظة:

الحرّ لم يولد حرًّا في كربلاء، بل صار حرًّا هناك. في تلك اللحظة التي قال فيها: ”إني أُخيّر نفسي بين الجنةوالنار…“ كان يعلن ثورة داخلية لا تقلّ عن الثورة التي يقودها الإمام الحسين في الخارج. لقد اختار أن ينتصر على خوفه، على ماضيه، على موقعه الاجتماعي والسياسي، وأن يعود إلى ذاته الأصلية. إنّها لحظة ”تحرّر الوعي“، حين يدرك الإنسان أن الخضوع للحق أجمل من البقاء في موضع القوة الزائفة.

فعندما وقف وجهًا لوجه أمام الإمام الحسين ، لم يرَ الخارج على الدولة كما رآه الآخرون، بل رأى نور الحق في عيون رجلٍ يسير إلى مصيره بثباتٍ وطمأنينة. بدأ الصراع في داخله منذ تلك اللحظة، بين أمر الحاكم ونداء القلب، بين الخوف من العقوبة والحنين إلى الصواب.

حتى جاءت اللحظة الفاصلة في يوم عاشوراء، حين قال كلمته الشهيرة: ”إني أُخيّر نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار علىالجنة شيئًا ولو قُطعت وحُرّقت.“

لم يكن القرار سهلاً، فقد كان يعني أن يواجه قومه، وأن ينقلب على موقعه وامتيازاته. لكنّ الحرّ اختار الطريق الأصعب، طريق الوعي والكرامة، فانتصر على نفسه قبل أن ينتصر في الميدان. ففي يوم عاشوراء، وبينما كانت جيوش ابن سعد تستعد للقتال، بدأ الحرّ يشعر بالندم والاضطراب.

لقد روت المصادر أنّه كان يرتجف كمن أصابه الحمى، فقال له أحدهم: ”إن أمرك لعجيب، ما رأيتك على حال كهذه!“

قال: ”إني والله أُخيّر نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار على الجنة شيئًا، ولو قُطّعت وحُرّقت.“ ثمّ اندفع مسرعًا نحو معسكر الإمام الحسين ، معلنًا توبته الصادقة، وقال: ”هل لي من توبة يا ابن رسول الله؟“

فقال له الإمام الحسين: ”نعم، تاب الله عليك.“

دوره قبل كربلاء: خرج الحرّ من الكوفة بألف فارس بأمر ابن زياد لاعتراض الإمام الحسين ومنعه من الرجوع إلى المدينة أو الوصول إلى الكوفة. وعندما التقى الركب الحسيني في منطقة تُسمى ”ذي حُسَم“، جرت بينه وبين الإمام حواراتٌ عميقة أظهرت أخلاق الإمام الحسين وصبره، كما كشفت عن بدايات التحوّل في نفس الحرّ .

قال له الإمام الحسين آنذاك: ”ثكلتك أمك يا حرّ، ما تريد؟“

فأجابه الحرّ بأدبٍ رغم الموقف العسكري: ”أما والله، لو قالها غيرك من العرب، ما تركت ذكر أمّه بالثكل، ولكن ما لي إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بخير.“

وهذه الكلمة من الحرّ أظهرت احترامه ومهابته لأهل بيت النبي ﷺ.

شهادته: قاتل الحرّ قتال الأبطال في صف الإمام الحسين ، وقيل إنّه أول من برز من التائبين بعد الالتحاق بالإمام، وأبلى بلاءً عظيمًا حتى أثخنته الجراح.

وحين سقط على الأرض، حضره الإمام الحسين وقال له برقةٍ: ”أنت الحرّ كما سمّتك أمّك، حرٌّ في الدنيا والآخرة.“

مكانته ورمزيته: أصبح الحرّ رمزًا خالدًا للتوبة والرجوع إلى الحق في آخر اللحظات. وما فعله يُعد درسًا إنسانيًا عميقًا: أنّ باب التوبة لا يُغلق ما دام في العمر نفس.

وقد بُني له مرقدٌ معروف في منطقة ”الحرّ“ قرب كربلاء، يزار حتى اليوم، وهو من المزارات المعروفة في العراق.

درس الحرّ للعصر الحديث:

في زمنٍ تُغري فيه المصلحة أكثر من المبدأ، يذكّرنا الحرّ أنّ الرجوع عن الخطأ ليس ضعفًا بل بطولة.

وأنّ الاعتذار ليس سقوطًا بل نهوضًا. وأنّ الإنسان قد يبدأ حياته تابعًا، لكنّه يستطيع أن يختمها قائدًا بروحه. لقد علّمنا الحرّ أنّ التوبة ليست فقط رجوعًا إلى الله، بل رجوعًا إلى إنسانيتنا الأولى.

الحرّ في داخل كلٍّ منا:

قد لا نكون في كربلاء، لكنّنا كثيرًا ما نقف في مواقف الحرّ:

حين نصمت عن الحق، أو نشارك في ظلمٍ صغير، أو نخاف أن نخسر مكانتنا إن قلنا ”لا“. هناك دائمًا ”حسين“ في الموقف يدعونا إلى النور، وهناك ”حرّ“ في داخلنا يتردّد…

فمن يوقظه، ينتصر.

يعلّمنا الحرّ أنّ التوبة ليست ختام الضعفاء، بل بداية الأقوياء. وأنّ الإنسان يمكن أن يخطئ، لكن لا يجوز أن يستمر في الخطأ بدافع الخوف أو العناد. وأنّ الرجوع إلى الحق لا يُسقط الهيبة، بل يصنعها.

كم نحتاج في زماننا إلى شجاعة الحرّ؛ في البيت والعمل والمجتمع. أن نملك الجرأة على أن نقول:

”كنتُ مخطئًا“، ”لقد غلبتني المصلحة“، ”سأعود إلى ما هو أصحّ“.

هذه الجمل الصغيرة قد تبدو عادية، لكنّها تُعيد بناء الإنسان من الداخل، كما أعادت الحرّ من جنديٍّ مأمور إلى رجلٍ خُلّد في التاريخ رمزًا للوعي والتوبة والحرية الحقيقية.

السلام على الحر بن يزيد الرياحي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا.