عصية
في حضرة الصمت خفية تعبث الثرثرة بعقلي.
بعزلة عن مسامع البشر، وخلف ستار الوحدة أشيع في ساحة البوح فوضى عارمة من كلمات بربرية عصية على الفهم.
غجرية النغم هي لذا تطرب لها نفسي، وتأنس بها مشاعري وإن سلب جل وقتي.
كأنني في دنيا الشعر مجنونة انشر في الصحراء أشرعة المراكب، وأجدف الرمال بأصابعي مرتجية الإبحار لعوالم تسكنها أبجديتي الغريبة بترجمة المشاعر.
متمردة أنا… مذ تكونت لغتي كسرت قيود الأبجدية، وصارت بعثرة الحروف عبثي وملجئي.
ألا يا أيها المتلبس بداياتي وربيع ورودي المتوارية وراء بسمة عذبة تخفي زمهرير البوح.
بوح قدر له أن يربى في كهوف الصمت المثلجة، منزوياً وحيداً وسط زحمة الحياة وضجيج أحداثها المتلاطمة الغريبة.
أي تمرد هو ذاك الذي يسكنه الخرس طواعية.
ربما هو الهروب!؟
ولما لا، فليس أجدى من الهروب والسكون للنفس في مكان آمن بعيد عن التطفل والفضول.
فلا يوجد على وجه البسيط من فضاء قادر على لملمة شطحات أفكارنا وفرط مشاعرنا سوى فضاء دواخلنا.
فكل نفس منا لها أسلوبها الخاص في الاحتواء الذاتي.
هي من تصنع ذلك الاتساع اللامتناهي الذي يرمح فيه خيالنا متخطياً حدود المنطق، حتى إنه قد يصل إلى ما وراء الظلام فيجد النور.
وهي ذاتها من تصنع ذاك الضيق المطبق حد الاختناق، حتى إنها قد تطفئ ضياء الشمس، وتطبق السماء على الأرض بفكرة.
قد تسحق وجودها بقرار لدرجة قناعتها إنها لم تعد تُرى.
فلا تعلق فشلك على أهداب القدر فالحياة خيارات واختيارات، فمضى راض بما اخترت ولك دوماً حرية تعديل اختياراتك.
كن مسالماً مستكيناً، ولا تهمل يوماً صوت أناك.
ها أنا ذا أحيا أحد قراراتي حين أكتب…. أما لما ولمن أكتب؟
اكتب لنفسي أم أرسل كلماتي لقارئي؟
في الحالتين أبعثر الكلمات لأخفف فيض مشاعري، وأرسل أفكاري زخات عطر تحط على نوافذ الغرباء تهديهم سلاماً وحبا.
ابحث في الأفق المحموم عن سحابة صيف تمطر ثلجا... عن حديث عابر ليس به من حمى الساعة حرفا... عن أغنية تعلن رجوع صخب الابتهاج لمدن الحياة والحب والانشراح.
بكلمة هامسة عند غيابي الأبدي، حين يفتقدني أحبابي بشدة ثم شيئاً فشيء يلقى بي في ركن منزو من الذاكرة.
لذا استنفذ منحتي من الحياة كما يحلو لي، ويرضيني اترك لذاكرة الدنيا نفحة عبير من رياض روحي.
تلك أحاديث النفس وثمة كلام كثير يتلاطم في مخيلتي، إلا أنه عصي أن يحكى أو يكتب.
فمالي اكبل أفكاري أسجنها واتركني طافية ما بين الفكرة والقلم.
لسوف اكتبني يوماً قصيدة خرساء تحار الألسن كيف تنطقني.
وكأنني أنثى من صمت تحير البوح بما يكتبني، وأنا التي أخوض غمار البوح صمتاً حين يزلزلني.
فبهذا الزمن العجيب أكاد أختنق بركام الكلام.
عندما تخرج الكلمة من كهوف الصمت الطويل لتطرق دون ميعاد فضاء الفكر والأدب، هنا تبدأ الفِكر بالتمرد على ذاك البيات البارد الثقيل تنطلق نحو السماء تتمدد فوق شطآن الحروف الدافئة ترسم للغد دنيا بها من شغف الحياة حياة.
فيا أيها البوح رفقاً لا تبتعد دونك تجف الحياة تتساقط أوراقي، وأغصاني تشيخ حتى تبتلعني جذوري، فأمضي نحو الرحيل.













