آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

فخر المخدّرات!!

ياسر بوصالح

وقعتُ مصادفةً على ملصقٍ لحملة إلى الديار المقدسة يحمل عنوانًا لافتًا ”فخر المخدرات“ ابتسمت بيني وبين نفسي، وتساءلت: تُرى، ما المعنى الذي سيتبادر إلى أذهان الناس إذا رأوا هذا الاسم على حافلات الحملة أو على صدور القائمين عليها؟

هل سيفهمونه بمعناه العصري المتداول، المرتبط بالمواد الممنوعة والمؤثرات العقلية؟ أم سيحتاجون إلى من يقول لهم: لا يذهب بحلمكم الشيطان، ويشرح لهم أن هذا العنوان العريق يستند إلى لقب ديني وتاريخي يُطلق في الثقافة الإسلامية، ولا سيما في مدرسة أهل البيت ، على السيدة زينب بنت الإمام علي وفاطمة الزهراء عليهما السلام، عقيلة بني هاشم، رمز الستر والصون والعفاف.

لكن المفارقة أن هذا اللقب، حين يُنتزع من سياقه اللغوي والثقافي، ويُطرح في فضاء عام مشبع بدلالات معاصرة مختلفة، قد يُفهم على غير وجهه، بل قد يُثير التباسًا أو سخرية غير مقصودة.

ولعلّ في هذا الموقف تذكيرًا بأهمية الوعي اللغوي والسياقي عند اختيار العناوين والشعارات، خصوصًا في زمنٍ تتبدّل فيه الدلالات، وتُختطف الكلمات من جذورها، لتُلبس أثوابًا لم تُفصّل لها.

وهنا قد يأتي من يقول: ”أنا مسؤول عمّا أقول، وأنت مسؤول عمّا تفهم.“

لكنني سأجيبه: ما هكذا تُورد يا سعد الإبل. فالأصل أننا مسؤولون أن نخاطب الناس على قدر عقولهم [1] ، لا أن نُلقي عليهم عناوين تحتاج إلى تفكيك لغوي وتاريخي قبل أن تُفهم. وقد قال أمير المؤمنين «من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون» [2] ، فليس من الحكمة أن نُبادرهم بما يستفزهم، أو نُحمّلهم مفاهيم تحتاج إلى تفكيك قبل أن تُفهم.

ألم يكن من البساطة أن يُختار عنوان وسط، مثل ”حملة عقيلة بني هاشم“ أو ”حملة الرضية المرضية“؟ عناوين واضحة، رصينة، لا تُثير التباسًا ولا تحتاج إلى شرح.

وطبعًا، هذا المقترح يُطرح من باب التنازل المرحلي أو اختيار أهون الضررين، لا عن قناعة مطلقة باستخدام هذه الألقاب في منشآت تجارية.

وهناك شواهد كثيرة تدعم هذا المعنى. فلو عبّر أحدهم عن وفاة شخصية فقال: لقد هلك فلان!!، فسيُنتقد على الفور، رغم أن التعبير وارد في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا [3]  لكن السياق المعاصر لا يتسامح مع المعنى القرآني إذا خالف الذائقة اللغوية السائدة، مما يُحتّم علينا أن نُراعي الفهم العام، لا أن نُراهن على عمق التأويل وحده.

ولهذا، أقولها بصريح العبارة دون مواربة: أعجب كثيرًا من حالة الخلط في مجتمعنا بين حب أهل البيت ، والمودة لهم، وبين ابتذال ألقابهم. فتجد مثلًا مطعمًا يُسمّى كباب الحجة، أو مشويات الكرار، أو حتى كراعين السجاد—استغفر الله.

لذلك، أرى من الضروري إعادة النظر في هذا النمط من التسميات، إذ لا ينبغي استخدام الألقاب الدينية أو الآيات القرآنية في منشآت ذات طابع تجاري، صونًا لمقامها، وحفظًا لقدسيتها من الابتذال العابر.

فإن استمر هذا النهج دون وعي، سنجد أنفسنا شيئًا فشيئًا نقترب من ممارسات بعض المناطق العربية التي تُبتذل فيها النصوص المقدسة، فيُكتب على سيارات الأجرة مثلًا ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ [4] ، أو على واجهات محلات العباءات النسائية ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [5] .

وأختم مقالتي بوصيةٍ بليغةٍ للإمام الحسن العسكري ، قال فيها:

«جُرّوا إلينا كلّ مودّة، وادفعوا عنّا كلّ قبيح» [6] .

تأمّل معي عزيزي القارئ مفردة «جُرّوا»، كم هي مشبعة بالدلالة؛ فهي تحمل في طياتها قوة الحركة، وحرارة العاطفة، ووضوح القصد. وهي من الكلمات التي يصعب استبدالها دون أن نفقد شيئًا من نكهتها.

وكأن الإمام يُدرك أن جلب المودّة لا يكون بالتكلف، بل بالاستماتة والتفاني، وبالحرص على أن تصل هذه المودّة إلى كلّ إنسان، لا إلى فئة دون أخرى.

وكأنّ باطن العبارة يُشير إلى أن المسؤولية تجاه أهل البيت ، قبل أن تكون شرعية، هي مسؤولية عقلية وإنسانية، تقوم على الذكاء الاجتماعي، وحسن التفهّم لعقليات الناس وردود أفعالهم، قبل كل تصرّف أو شعار.

فالمحبّة تُستدرج، لا تُفرض؛ والمودّة تُصان، لا تُبتذل؛ والرموز تُجلّ، لا تُختزل في أسماء مطاعم أو حملات لا تُراعي السياق ولا الذائقة.

[1]  إشارة إلى الحديث عن النبي الأعظم ﷺ «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» الكافي، ج 1، الشيخ الكليني، ص 71

[2]  نهج البلاغة ج 4 ص 10

[3]  سورة غافر، الآية رقم 34

[4]  سورة هود، الآية رقم 42

[5]  سورة الأعراف، الآية رقم 26

[6]  بحار الأنوار ج 75 ص 372