آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

رحمة بقلوب أنهكها العمر

سراج علي أبو السعود *

الشتاء في الرياض جميل، بطريقته الخاصة. نغتنمه عادةً بالمشي والجلوس في المقاهي والمتنزهات أو ربما حضور مباريات كرة القدم، فالهواء بارد بما يكفي ليوقظ الحواس دون أن يلدغها. ولأنني من الموقنين أن أغلب الموظفين قد ”فُقِعت مرارتهم“ من ضغط العمل، فإني أفتي عليهم بالوجوب العيني أن يخرجوا في الشتاء يشمّوا هوا ويهدأوا قليلاً، لعلّ مرارتهم المفقوعة تهدأ. الأحاديث في مثل هذه الجلسات لا تعرف الانضباط، تتنقّل بخفة بين احداث العالم والحياة ومباريات الكرة، ثم لا بد لها، شئنا أم أبينا، أن تنعطف إلى ما يجري في هذا العالم من ظلم وجور. سؤال نكرره كأننا نسمعه لأول مرة: لماذا يظلم الإنسان أخاه الإنسان؟ لماذا يؤذيه، وهو يعرف وجع الأذى؟ وبينما كنا ندور في فلك هذه الأسئلة الثقيلة ونحن نتدفأ بفناجين القهوة والشاي المخدر، تسلّل الحديث إلى زاوية منسية: كبار السن. أولئك الذين أقعدهم العمر في بيوتهم، وانكمش العالم من حولهم. ماذا يفعلون؟ كيف يمضون وقتهم؟ وهل من ملجأ لهم من وحدتهم المريرة؟.

شخصيًا، لا أظن أنني أحتمل الجلوس في البيت يومين متتاليين دون نشاط يبهج النفس. لا بد من إفطار في مطعم، أو جولة في مجمع تجاري، أو مقهى أستمتع فيه بفوز الاتحاد على ”العدو“ الأزلي! لحظات بسيطة كهذه تُنعش القلب، وتُعيد التوازن بعد رتابة الأيام. لكنني أتساءل: ماذا عن ذلك الثمانيني المقعد في بيته؟ ما عساه أن يفعل؟ كيف يمضي نهاره الطويل؟ أظن أن فكرة جمعية تُعنى بكبار السن، لو خرجت إلى النور، يمكن أن تكون انفراجة نفسية عظيمة لهم. تخيّل قارئي العزيز حافلة صغيرة تنقلهم إلى شاطئ هادئ أو متنزهٍ أخضر في جوٍ لطيف. بستان فيه بركة سباحة صغيرة، أو رحلة إلى معلمٍ تاريخي، أو حتى مجلسٍ بسيط يتبادلون فيه أطراف الحديث ويضحكون كما كانوا يفعلون في شبابهم. ولو رافقهم في تلك الرحلات كادرٌ طبيّ يهتم بشؤونهم، وممرضون يساعدون ذوي الاحتياجات الخاصة، لكان في ذلك راحة وطمأنينة لهم ولذويهم. مشروع كهذا، لو نُفِّذ باحترافية، كفيلٌ أن يرسم ابتسامةً على وجوه أنهكها تعب الحياة. شركاتنا الكبرى كأرامكو وسابك في المنطقة الشرقية تملك من الإمكانات ما يجعلها قادرة على رعاية مبادرة كهذه، ولا شك أن مثيلاتها في بقية مناطق المملكة يمكنها أن تسهم أيضًا. فهؤلاء الكبار الذين منحوا الوطن زهرة أعمارهم في العمل والكفاح، يستحقون لحظة سعادة تُعينهم على مواجهة الشيخوخة وآلامها، وتذكّرهم أن الوطن لا ينسى أبناءه حين يشيب الشعر وتضعف الأجساد.

الحقيقة أن كثيرًا من كبار السن، لا سيما المقعدين منهم، يعيشون حياة رتيبة مملة، لا جديد فيها سوى انتظار الأجل. نعم، لا مفر من الموت، ولكن لا يعني ذلك أن يموت الإنسان في كل يوم من الملل والوحدة. هؤلاء ينتظرون من يبهج قلوبهم الحزينة، من يمدّ إليهم يد الأنس في عالمٍ صار سريعًا أكثر من قدرتهم على اللحاق به. وإلى أن تتبلور فكرة الاهتمام الحقيقي بهم على أرض الواقع، سيبقى أغلبهم يعيشون موتًا متكررًا كل يوم. حزنٌ متراكم، وضجرٌ خانق، وإنهاكٌ نفسي يطوي ما تبقّى من أعمارهم، وهم في أقصى درجات الكمد، لا يجدون ما يقولونه سوى:

ذهب الشباب فماله من عودة…

وأتى المشيب فأين منه المهرب