آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

تسرّب الأطباء.. قراءة في دلالات الأرقام

دكتورة لمياء عبدالمحسن البراهيم * صحيفة اليوم

في تقريرٍ بثّته قناة الإخبارية مؤخرًا، أُشير إلى ارتفاع عدد الأطباء السعوديين العاملين في الخارج؛ بنسبة 62 % في الولايات المتحدة، و 256 % في كندا خلال ست سنوات.

الخبر قُدّم بصفته دليلاً على ”ثمار الاستثمار في التعليم الصحي“، لكن السؤال الذي يستحق التوقف عنده هو: هل تمثّل هذه الزيادة مكسبًا وطنيًا أم مؤشّر تسرّب في رأس المال البشري؟

بحسب بيانات «OECD» لعام 2023، يبلغ متوسط كثافة الأطباء في الدول المتقدمة 3.7 طبيبًا لكل ألف نسمة، بينما لا يتجاوز المعدل المحلي 3 أطباء لكل ألف. أما تقرير البنك الدولي «2022» فيُحذّر من فجوة متزايدة بحلول 2030 إذا لم تُعزَّز سياسات الاحتفاظ والتمكين.

الأرقام إذن لا تعني فقط زيادة في الخارج، بل نقصًا في الداخل. فكل طبيب يغادر هو استثمار ضخم ينتقل بعائده إلى منظومة أخرى. تسرّب الكفاءات ليس نتيجة فردية، بل انعكاس لمنظومة بيئة العمل. حين تتراجع العدالة الوظيفية، وتتزايد الأعباء الإدارية على حساب الممارسة المهنية، وتغيب مسارات الترقّي الواضحة، تبدأ الكفاءات في المغادرة الصامتة.

الإصلاح هنا يكون بإعادة توازن المنظومة بين الكفاءة والتحفيز، وبين الإنتاجية والتقدير.

دولٌ عديدة واجهت نزيف الكفاءات بسياسات عملية:

روسيا منذ 2012 قدّمت برنامج «الطبيب القروي» بحوافز مالية وسكنية، وأستراليا وكندا ربطتا المنح الطبية بعقود خدمة إلزامية لعدة سنوات داخل القطاع العام. الرسالة واضحة: الاحتفاظ بالكفاءات يتطلّب حوافز واقعية، لا شعارات. ليس المطلوب أن نتوقّف عن الاحتفاء بأطبائنا الناجحين في الخارج، بل أن نقرأ الظاهرة بعين المسؤولية.

الاستثمار في الإنسان لا يُقاس بعدد الخريجين، بل بقدرتنا على توفير بيئة تمكّنهم من البقاء والإنتاج محليًا. والتحول الصحي الذي نعيشه اليوم بحاجة إلى مؤشرات تُركّز على جودة التمكين لا على كمّية الأرقام.

مقترحات:

1. إعادة تصميم بيئة العمل لتقليل البيروقراطية وتعزيز الدعم الفني.

2. حوافز مناطقية عادلة تُراعي الظروف المعيشية والعائلية.

3. مسارات مهنية شفافة تربط الترقّي بالكفاءة والبحث العلمي.

4. مرونة في التنقّل بين القطاعين العام والخاص ضمن ضوابط الحوكمة.

5. مؤشرات استدامة رأس المال البشري تُعلَن دوريًا وتُدرَج ضمن مؤشرات الأداء المؤسسي.

هجرة الأطباء السعوديين قضية ليست طارئة ولا عرضية؛ إنها مرآة تُظهر مقدار ما تبقّى من الثقة في المنظومة. والتعاطي معها بموضوعية هو الطريق الوحيد لتحويل «التسرّب» إلى «استبقاء». فالاستثمار في العقول لا يكتمل إلا بقدرتنا على صونها.

حين نقرأ الأرقام بعين التحليل، لا بعين التسويق، نُبصر الطريق الحقيقي نحو التحول الصحي.

استشارية طب أسرة
مستشار الجودة وسلامة المرضى
مستشار التخطيط والتميز المؤسسي
كاتبة رأي