الفكر الإسلامي في عالم المتغيرات
ثلاثة إشكالات كانت محلَّ انشغال الفكر الإسلامي المعاصر والمنشغلين به، لها علاقة وثيقة ببناء شخصيتنا وأفكارنا ومنظومتنا العقدية والثقافية، والأهم نظرتنا إلى العالم، والحضور الفاعل والواعي في عملية التغيير في الحياة الإنسانية.
وتظهر تلك الإشكالات في ثلاثة مستويات؛ ينطلق المستوى الأول من الفرد نفسه، في قدرته على كيفية التوافق بين الالتزام الديني من جهة، والانفتاح على الإنتاج الإنساني والمتغيرات الواقعية من جهة أخرى. وينبع المستوى الثاني من السياق الاجتماعي ومشكلاته، في مهمة تشكيل مجتمع ذي مرجعية دينية يستلهم منظومة قيمه من الدين ويحقق العدالة والحرية. أمّا المستوى الثالث فيتعاظم حضوره حضاريًا في طرح التساؤل عمّا إذا كان مستقبل البشرية مرهونًا بالنموذج الحضاري الغربي فقط، أم أن التاريخ ما زال مفتوحًا على إمكانية صياغة نماذج حضارية أخرى تعبّر عن خصوصيات ثقافية مختلفة؟
ويظهر من الوهلة الأولى أن تلك الإشكالات تُفسّر طبيعة معترك الصراع القائم الذي يعيشه الإنسان المتدين بين «التراث» الذي يمثل أساس تاريخه وثقافته، وبين «الحداثة» باعتبارها ظاهرةً عصريةً هامة، إلى جانب أنّ البحث في تلك الإشكاليات وموضوعاتها بين المنشغلين بالفكر الإسلامي ينطلق من رؤى وآراء متباينة، لتصل في آخر المطاف إلى استنتاجات متباينة، وبالتالي فإن أكثر تلك الاستنتاجات ليست بالضرورة إجابات عمّا طرحته تلك الإشكالات من تساؤلات، بقدر ما تعكس الهواجس والمخاوف التي يحتضنها الخطاب الديني وهويته في مجتمعاتنا.
وعلى أثر ذلك، ندرك واقعًا أن الفكر الإسلامي لا يزال بحاجة إلى قراءة تحليلية جديدة تستوعب المتغيرات وطبيعة التحولات العصرية، وإلى رؤية منهجية فاعلة تستبصر المستقبل وترسم ملامحه.
والواضح أن أحد أسباب تضخم الأزمات في مجتمعاتنا هو الانشغال بالردود على التيارات الأخرى ونقدها، دون توجيه النقد إلى ذواتنا، وإثبات المتغيرات والتحولات الجديدة التي فرضت تحديثات على بنية المفاهيم والأفكار تفاعلًا مع حركة الزمن ومواءمته.
لقد غدا من الضروري أن ينتقل الفكر الإسلامي من موقع الناقد إلى موقع المنتج للبدائل، ومن الاكتفاء بالعموميات إلى طرح رؤى واضحة قابلة للتطبيق، ومن حالة الركود والجمود إلى مساحات التجديد. كما بات مطلوبًا الاهتمام بقضايا العصر وتحدياته بدل الاستغراق في قضايا الماضي. هذا التحول يعكس نضجًا أكبر، بإسلامٍ واقعي يساعد على تحرير أصحابه من الأفكار التي تعيقه عن التقدم والتطور، بعيدًا عن نموذجٍ مثالي ينطق بالمثل العليا ويفتقر إلى الفكر المبدع، ويفقد هويته مع أول مواجهة أو مشكلة، عاجزٍ عن انتشال الإنسان من خرافاته وأساطيره التي كانت عليها أمم آبائه.
وعليه، حاول المنشغلون بالفكر الإسلامي المعاصر رفع هاجس الخوف وتعزيز حالة الاطمئنان لدى الفرد المتدين في مجتمعنا؛ أوّلًا: بالوقوف على تلك الإشكالات من خلال تفكيك مفاهيمها وإدراك احتياجاتها إدراكًا عقليًا منطقيًا سليمًا، بشكل يُزيل حالة الغموض والالتباس عنها، عن طريق البحث عن إجابات منطقية متجددة تقود - في ذات الوقت - إلى عشرات التساؤلات والاحتياجات الجديدة التي تحمل بين طيّاتها طبيعة الحال وملامح الزمان والمكان والتاريخ وتأثيره. وثانيًا: بالعودة إلى التراث على هدى العقلانية الجديدة القائمة على عزل الموضوعات عن قائليها.
وفي هذا السياق، نشأت في العصر الحديث عدة مبادرات إصلاحية تجديدية لعدد من العلماء والمفكرين في محاولةٍ لإعادة حضور الدين وفاعليته في حياة الإنسان. ومن بين أولئك الدكتور عبد الكريم سروش الذي ميّز بين حقيقة جوهر الدين الإلهي الثابت وبين المعرفة الدينية الناتجة عن الفهم البشري، مؤكدًا أن المعرفة الدينية معرفة متغيرة ومتطورة. فيما جعل مالك بن نبي من الإنسان والوعي الحضاري منطلقًا أساسيًا في مشروعه الفكري، موضحًا أن تنمية الإنسان معرفيًا وقيميًا والارتقاء بوعيه الحضاري أساسُ أيِّ مشروعٍ نهضوي. في حين كانت دعوة الإمام محمد عبده إلى الإصلاح والتجديد قائمةً على إعادة تفعيل باب الاجتهاد، وتعزيز صلة الدين بالعقل والعلم، وركّز - إلى جانب ذلك - على إصلاح التعليم الديني ومناهجه.
إن إعادة تشخيص مسار الفكر الإسلامي أصبحت ضرورة، خاصة في عصرٍ تتسارع فيه التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، من أجل تقديم رؤية متجددة تتواكب مع حجم المتغيرات، وتستجيب لمتطلبات العصر.













