آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

سراج وخلاص

سراج علي أبو السعود *

وأنا على مشارف العقد الخامس من العمر، لا أجد لنفسي الحق أن أضع قبل اسمي، في رسالة إلى صديق أو دعوة لحضور فرح، حرفًا يدل على درجة علمية أو مهنية أحملها. لن أكتب «أ.» إن كنت أستاذًا، ولا «د.» إن كنت دكتورًا، ولا «سماحة العلامة» إن كنت شيخًا. أنا سراج وخلاص. أقول ذلك بعد صدمة فكرية تجاوز عمرها ثلث قرن، ما زلت أتذكرها بين الحين والآخر بشيء من التذمر الممزوج بالغضب، حين رُوي لي أن رجلًا طرق باب بيت وسأل: «هل هذا بيت فلان؟» فجاءه الرد المفاجئ من صاحب البيت نفسه: «بل بيت ……….. فلان!» ومنذ ذلك الموقف بدأت أفكر مليا: ما الذي يجعل الإنسان يختبئ خلف لقبه؟

يُخيَّل لي أن المجتمعات حين تفتقر إلى الكفاءات العلمية والثقافية، فإن الشخص الذي يمتلك منها نصيبًا بارزًا قد يرى نفسه في مقامٍ أعلى من غيره. هذا الإحساس يدفعه غالبًا إلى نوعٍ من التعالي، أو ما يشبه الفوقية السلوكية؛ سلوكٌ يُظهر به أنه أفضل من الآخرين. إن جلست معه في مجلس، ستجده يتحدث أكثر الوقت عن رحلاته العلمية ومغامراته الأكاديمية وتنقله بين المكتبات وميادين الفكر. كأنه يقول لمن حوله باختصار: أنا أحسن منكم. وإذا سألك ماذا درست، فليس بدافع الفضول، بل لأنه ينتظر الفرصة ليخبرك هو بما درس، وكأنه يريد أن يُقنعك بتفوقه عليك. هذا النوع من الناس - كما أظن - يعيش اليوم أزمات نفسية معقدة، سببها أن دوافع الغرور لم تعد قائمة؛ فالمجتمع مليء بأصحاب الشهادات العليا من أفضل الجامعات، ولم تعد تلك الألقاب تميّز أحدًا كما كانت من قبل. حين يحاول أن يقلل من شأن الآخرين، يكتشف في النهاية أنه مجرد نقطة صغيرة بين آلاف الكفاءات من حوله. أهمية الحديث عن هذه الفئة أنها تحتاج - في رأيي - إلى إعادة تربية بلغة واضحة وحازمة، ليفهموا أن قيمتهم لا تكاد تُذكر، وأن تعاليهم لا مبرر له. اجلسوا بأدب، ولا «تنفخوا» على أحد؛ فأنتم لا تتميزون عن غيركم بشيء سوى الغرور والتعالي.

أظن قارئي العزيز أن شخصا يريد التعريف بنفسه في مجلس عام أو يريد أن يرسل رسالة تهنئة لصديق بصباح جديد، فلا داعي أن يضع فيها منصبه أو درجته. وإذا جلس في مجلس، لا ينبغي أن يحدث الناس عن شهادته دون مبرر. صدقا أقول؛ لا أحد مهتم. ولا أحد لديه وقت ليسمع ماذا درس غيره ولماذا درس. هذا التصرف برأيي لا يليق، ولا يضيف لصاحبه شيئًا. بل يُنقص منه كثيرًا. وأنا أعلم أن الكلام لن يغيّر المغرور، لكنه على الأقل يوضح لمن يجلس مع هذا النوع من الناس المستوى المطلوب من الصراحة في الردّ. فربما حين يسمعون حديثًا فظًّا يوازي فظاظة غرورهم، يتراجع بعضهم خطوة. ومن كان يحتاج لقبًا ليُرى، فمشكلته ليست في الناس، بل في نفسه.