آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

شواهد القبور

مفارقة عجيبة ومتباينة عند البعض ما بين العيش بين حنايا العلاقات الأسرية والاجتماعية وبين محطة الرحيل وعالم القبور، فيسمح لنفسه أن تعبث في علاقاته بتقدّم وتحكّم المشاعر الملتهبة والسلبية وتفلّت الظنون السيئة بما تؤدّي إليه من خسائر فادحة، فتصاب علاقاته بسبب التوترات والمشاحنات بالتهرّي والتقطّع، دون وجود كابح لجماح نفسه لوقف مسلسل التسرّب في تلك العلاقات، فتلك النقاشات البسيطة لا تلبث أن تتحوّل إلى حوار ساخن تتناثر منه الكلمات القاسية والجارحة، لا يبالي بما ستكون عليه علاقاته بسبب مواقفه وكلماته غير المحسوبة.

ولكن المشهد يتغيّر على أبواب المقابر وتوسّد الموتى التراب وانتهاء كل المواقف المتشنّجة والخصومات، ولعله يدرك حينها أن الحياة العبثية سراب أمام واقع ابتعد عنه كثيرا، وهاهو يرى بأم عينه مشهدا مختلفا وغير مألوف، وكأنه أفاق من كابوس أقلق منامه وتمنّى انتهاءه؛ ليعاين حقائق غابت عن وعيه وعمله وقد انقشعت عن عينيه ضبابية أعمت بصيرته وأدخلته في نفق مظلم، من الخلافات وخيارات تحكّمت فيها أهواؤه وأفقدته حياة الانتماء والطمأنينة المجتمعية، فالحياة بين أفراد المجتمع تتكئ على فهمهم وإدراكهم لمسيرة تلك العلاقات وكيفية إدارتها بعيدا عن المناكفات والتوترات، وذلك عندما يغلب عليهم منطق الحكمة وضبط النفس وتجنب المنزلق الشيطاني المتمثل بحاكمية الانفعالات والتصرفات غير اللائقة، فمن لم يفهم هذا الأمر يعي خطورة الخصومات عند شواهد القبور وبين يدي تراب من غيبتهم المنون عن حياة تعجّ بالحيوية والفاعلية في يوم من الأيام.

ولعل الإنسان لا يُدرك قيمة ما يملك إلا بعد أن يفقده تمتد صورها في جميع جوانب حياتنا حتى الاجتماعية، فلا نشعر بقيمة من كان يحيى بيننا إلا بعد رحيله، وكأن الفقد هو الوسيلة والعدسة الوحيدة التي يمتلكها البعض لرؤية الحقيقة والقدرة على تركيز الرؤية بما لا لبس فيه، نعم إنها الطبيعة البشرية التي تتداخل فيها العواطف مع الإدراك وتتسلل فيها الغفلة حتى تتحكم في مفاصل الاختيار،

وهم الاقتدار ينهار فجأة ويكشف العامل الزمني وهنه حينما يغادر البعض مشهد الحياة فجأة وبدون قدرة على الرجوع إلى الوراء، فما الذي ينكشف أمام بصيرة الإنسان - مما كان عنه غافلا - عند شواهد القبور، فيغيّر مجرى حياة اللا مبالاة في كل ما يصدر منه من كلمات أو مواقف متشنجة؟

الحقيقة الأكيدة والمرة بأنه لا يوجد ما هو مضمون من القوة والصحة والعمر، فالموت يأتي بلا سابق إنذار دون أن يفرّق بين صحيح وسقيم أو كبير وصغير، فالعيش المؤقت «إلى أجل مسمى» حقيقة تغيب عن الإنسان في زحام الانشغالات الحياتية ولا يتذكّرها جيدا إلا عند الوقوف على القبور، فكل من حولنا قد يغيب في أي لحظة فلماذا كل هذا الغرور والتعالي وقطع الأرحام والخصومات مع الآخرين ونسيان الآخرة؟

كأننا لا نحتاج سوى تهديد الرحيل حتى نُدرك أن الحب كان حاضرا وممكنا طوال الوقت، لكننا كنا نؤجله إلى الغد الذي لم يأتِ ولا نبديه إلا دموعا على القبور وآهات الندم والحسرة على خصومات، لم يكن يكفينا شر وجودها سوى لحظات حكمة وضبط النفس.