بأيّ ذنبٍ كُسِرَت؟
وصلني قبل مدّة من مركز فكر العلمي في ميسان [1] ، عبر صفحتهم على فيسبوك، منشورٌ يتضمّن حديثًا قدسيًا يقطر رحمة، ويواسي القلوب المنهكة، جاء فيه:
«أَنا عِندَ المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهُم، والمُنْدَرِسَةِ قُبورُهُم» [2] .
ولعلّ جمال هذا الحديث القدسي يكمن في أنه كلما تعمّقت فيه وتأمّلت، فتح لك أبوابًا من المعنى والطمأنينة.
تأمّل مثلًا قوله: «أَنا عِندَ المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهُم».
هل يُفهم منه أن رحمته سبحانه وسعت كل شيء، لكن أصحاب القلوب المنكسرة لهم خصوصية، بحيث يكون هو عندهم بذاته، لا بوسائط رحمته؟
أم أن المقصود أن الدعاء عند هؤلاء، والإحسان إليهم، هو موضع استجابة، لأنهم في حالٍ من القرب والانكسار يجعلهم أقرب إلى رحمته؟
أم لعلّ المعنيين معًا حاضران في هذا النص الإلهي العميق؟
ثم يتولّد سؤال آخر: من هم المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهُم؟
أَهُم المظلومون الذين لا يستطيعون دفع الأذى عن أنفسهم، فانكسرت قلوبهم من شدّة العجز، كمن فقد سندًا أو حُرم من الإنصاف، فبات لا ملجأ له إلا الله، ويكون جبرهم واجبًا كما في الحديث: «من كسر مؤمنًا فعليه جبره» [3] ؟
أم هم الذين يئنّون من كثرة الهموم في طلب المعيشة، كما رُوي عن النبي الأعظم ﷺ: «إنه ليأتي على الرجل منكم زمان لا يُكتب عليه فيه سيئة، وذلك أنه مبتلى بهمّ المعاش» [4] ، وقال ﷺ: «إن الله يحب كل قلبٍ حزين» [5] ؟
أم هم المنكسرة قلوبهم من خشية الله، كما ورد عن أمير المؤمنين
: «إن لله عبادًا كسرت قلوبهم خشيته» [6] ، وكما جاء في مناجاة المفتقرين: «إلهي، كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك» [7] ، وفي دعاء كميل: «وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، معتذرًا، نادمًا، منكسِرًا…» [8] ؟
لعلّ كل هؤلاء داخلون في هذا الفيض الإلهي، فالانكسار في هذا السياق ليس ضعفًا، بل مقامٌ من مقامات القرب، لا يُدرك إلا حين تنكسر الحيل، وتُرفع الأكفّ، وتُسلم القلوب.
ثم يأتي الشق الآخر من الحديث، وهو الأشدّ رحمةً ودهشة: «والمُنْدَرِسَةِ قُبورُهُم».
تُرى، ما معنى هذه العبارة؟
هل تعني أولئك الذين ماتوا، ومرّ عليهم الزمن، فاندثرت قبورهم، ولم يبقَ من يزورهم أو يذكرهم، حتى غابت آثارهم عن أعين الناس؟
أم أن المعنى أعمق من ذلك بكثير؟
لعلّ «والمُنْدَرِسَةِ قُبورُهُم» ترمز إلى أولئك الذين غابوا عن ذاكرة التاريخ، ولم تُكتب لهم سيرة، ولم تُنصفهم المجالس ولا الإعلام، لكنهم كانوا من أهل الله، وخُلّدوا في سجلّ رحمته.
بل ربما ترمز إلى من غاب أثره، وذابت ملامحه، ولم يُخلّد في ذاكرة الأرض، كالغريق في أعماق البحار، والمحروق الذي تشتّت رماده في الريح، والشهيد الذي هو حيٌّ عند ربّه، لكن لا أشلاء له تُدفن في الأرض.
هؤلاء الذين لا شواهد لهم، ولا زائرين، ولا حتى ترابٌ يحتضنهم، لكن الله يقول: أنا عندهم.
وكأنّ الحديث يهمس:
من نسيهم الناس، لم أنسهم أنا. ومن غابت قبورهم عن الأرض، حضرتُ أنا عند أرواحهم.
وفي السياق ذاته، أود الإشادة ببعض المبادرات التي تنبع من روح إنسانية ووطنية في آنٍ واحد، مثل حملة ”أكرموهم“ التي أطلقتها أمانة الأحساء، وشارك فيها أكثر من 650 متطوعًا، واستهدفت تنظيف وترميم 70 مقبرة [9] .
وفي القطيف، تبرز جمعية تُعرف بـ ”جمعية الفردوس لإكرام الموتى“، وهي تقدم خدماتها مجانًا، كتهيئة الجنائز، وتنظيم مراسم الدفن، وتوثيق مواقع القبور ضمن مبادرة لأتمتة المقابر، بالتعاون مع بلدية القطيف [10] .
إن مثل هذه المبادرات لا تُعنى فقط بصيانة الحجر والتراب، بل تُعيد الاعتبار للذاكرة المنسية، وتُجسّد المعنى العميق للحديث القدسي: «أَنا عِندَ المُنْكَسِرَةِ قُلوبُهُم، والمُنْدَرِسَةِ قُبورُهُم».
فهي تواسي من غابوا عن أعين الناس، وتُعلن أن الكرامة لا تنتهي بالموت، وأن الرحمة يمكن أن تُكتب أيضًا بأيدي الأحياء حين يكرمون من رحلوا بصمت.













