آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

ما لا تراه العين: حين يملأ العقل الفراغ بما يشتهي

عبير ناصر السماعيل *

رحلة بين الإدراك والوهم... حين تصبح الرؤية انعكاسًا لما نخاف أن نراه.

كانت يداي تتحركان بحدة فوق سطح المكتب الأنيق. قلبتُ الأوراق المتناثرة بلا جدوى، دفعتُ الأقلام الزرقاء والحمراء جانباً، رفعتُ حافة شاشة الحاسوب المحمول باحثاً أسفلها، بينما كان الضوء الأبيض المنبعث منها يزيد من وهج الحيرة في عينيّ. كان هذا الكيان المادي في حالة استنفار وضغط، يخوض معركة ضد الغياب.

لم أجد الشيء.

في تلك اللحظة، كان الوعي الداخلي يصارع بين اليقين بوجود ما أبحث عنه والإنكار أمام غيابه في تلك المساحة المحدودة.

بعد وهلة من هذا الصراع، اقترب زميل بهدوء، وتوقف بجواري، مستشعراً حالة التيه:

- ما الذي تبحث عنه بهذه الحدة؟

أجبتُ بصوت خافت يعكس الهزيمة:

- مفتاحي.

نظر للحظات، ثم أشار ببساطة عجيبة نحو زاوية بجوار فأرة الحاسوب:

- إنه أمامك.

نظرتُ... كان هناك فعلًا. قطعة معدنية لامعة، أمام عينيّ تماماً، ومع ذلك لم نُبصِرها. كيف يمكن للعين، وهي أداة الرؤية التي تقودها الأعصاب، أن تخوننا إلى هذا الحد؟

أيمكن أن يكون عمى العين امتدادًا لعمى أعمق يسكن وعينا؟

وهنا، يهمس القلب بحقيقة أزلية:

إننا لا نُصاب بالعمى حين نُغلِق أعيننا، بل حين نُغلِق قلوبنا عن الرؤية.

التفسير العلمي: الثغرة والدماغ المُكَمِّل

كثيرًا ما نسمع عن ”النقاط العمياء“ في مرايا السيارات، أو عن تلك الزوايا التي لا تراها العدسات مهما دارت. لكن المدهش أن هذه الفكرة لا تخص الأدوات وحدها — إنها تسكن فينا أيضًا.

في داخل كل عينٍ بشرية، بقعة صغيرة تُسمّى النقطة العمياء «Blind Spot»، تقع تحديدًا عند قرص العصب البصري، حيث تتجمع الألياف العصبية الخارجة من الشبكية لتشكّل العصب الذي ينقل الصورة إلى الدماغ. هذه البقعة لا تحتوي على خلايا حسّية تلتقط الضوء، أي أنها فراغ بصري حقيقي في مجال رؤيتنا.

كان الفيزيائي الفرنسي إدموند ماريوت «Edme Mariotte» أول من اكتشفها في القرن السابع عشر، مدهوشًا من أن الإنسان لا يشعر بوجودها رغم كونها ثابتة في كل عين.

لكن الأعجب من وجودها هو سلوك الدماغ تجاهها. فهو يرفض فكرة ”الثقب في الصورة“، ويبدأ فورًا في ملء هذا الفراغ استنادًا إلى المشهد المحيط، أو ما يتوقعه من شكل العالم حوله. إنها عملية لا إرادية تُعرف بـ Filling-in, حيث يتدخل الدماغ ليُكمل ما لم تلتقطه العين، فيجعلنا نرى صورة متماسكة لا انقطاع فيها.

نحن لا نرى الحقيقة كما هي، بل كما يعيدُ الدماغ تركيبها كي يَطمئن إليها.

هذا السلوك ليس مجرد خدعة بصرية، بل آلية بقاء عصبية: فالعقل يختار الوهم المنسجم على الواقع المربك.

لذا، قد نكون أحيانًا في منتصف شارعٍ نمرّ به كل يوم، ومع ذلك لا ننتبه لمحلّ جديد فتح أبوابه قبل أسبوع، لأن الدماغ ببساطة قرّر أن الصورة «مكتملة كما كانت». إننا لا نعيش فقط في عالم نراه، بل في عالم نملؤه بما اعتدنا رؤيته.

وهنا يبرز السؤالان اللذان يطرقان الوعي برفق:

• هل نكمل نحن أيضًا ما لا نرى، كي نحافظ على شعورنا بالاتساق؟

• وهل الوهم الذي يخلقه الدماغ أرحم من الفراغ الذي قد تخلّفه الحقيقة؟

النقطة العمياء الشاملة: من العلاقات إلى الوجود

لم يكن ”المفتاح“ هو الوحيد الذي ضل طريقه أمام عينيّ. لطالما كنتُ أرتاد المكتبات، أبحث عن ذلك المؤلف تحديداً، أقتني كل ما يخطه قلمه، وكأنني أبحث عن نافذتي الوحيدة على الحقيقة. مرّت السنون، وعُدتُ في لحظة صفاء إلى رفوفي، أمسكتُ بكتبه القديمة، وبدأتُ القراءة... تفاجأتُ!

كيف كانت هذه الكلمات تُدهشني؟

أين ذهب ذلك البريق الذي كنت أراه فيها؟

هل تغيّر الكاتب؟

أم أن بصيرتي أعادت خلق نفسها، فصارت تبصر المعنى لا الصورة؟

ذلك الإدراك البسيط جعلني أتساءل:

هل النقطة العمياء تسكن العين وحدها، أم تمتد إلى الوجدان أيضًا؟

كم مرة أحببنا انعكاسنا في الآخر، وظننّاه هو؟

وكم مرة أكملنا فراغًا بالعاطفة، فخيّل إلينا أنه امتلاء؟

هذا الإكمال التلقائي لا يقتصر على البصر أو المشاعر الفردية، بل يمتد إلى وعينا الاجتماعي أيضًا.

هو ما يفسّر الكثير من ”عمى الانتباه“ الذي نعيشه يوميًا، كما فصّله باناجي وغرينوالد في كتاب ”Blindspot: Hidden Biases of Good People.“ إننا نعيش في واقعٍ مكمَّل صنعته أذهاننا، لا في واقعٍ خالص. تمامًا كما يُكمل الدماغ فراغ الرؤية بالوهم البصري، يكمل الوجدان فراغ العاطفة بالوهم الشعوري، فنعيش صورًا متقنة لعلاقات ناقصة.

أ. النقطة العمياء في العلاقات:

ندخل العلاقات بشغف الاكتمال، نرى الطرف الآخر بعينٍ مهيأة للتصديق لا للفهم. نُكمل ما لم يُقل، ونتغاضى عمّا يُؤلم، ونحوّل الصمت إلى وعدٍ، والخذلان إلى سوء فهمٍ بسيط. العقل هنا لا يختلف عن الدماغ حين يملأ النقطة العمياء — يكمّل الصورة لئلا يشعر بالانقطاع. كما أشار ليون فستنغر في نظريته عن التنافر المعرفي، نحن نُعيد تشكيل الحقيقة لتنسجم مع رغبتنا في الاستمرار، لا مع ما هو موجود فعلاً.

هل نحب الآخر كما هو؟

أم كما نحتاج أن يكون كي لا نخسر إحساسنا بالاكتمال؟

ب. النقطة العمياء في الذات والمسار العملي:

حتى في علاقتنا بأنفسنا، نمارس هذا العمى ذاته. نرفض أن نرى ما يؤلمنا، نبرّر فشلنا بالظروف، ونجمّل الصورة كي لا نواجه هشاشتنا. نُغلق أعيننا عن ضعفٍ مؤلم، وننسب البطء إلى الوقت، والجمود إلى القدر. كما قال ستيفن كوفي في كتابه العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية:

”أعقد النقاط العمياء في حياة الإنسان هي اعتقاده أنه يرى الأشياء كما هي، بينما هو في الحقيقة يراها كما هو.“

هذا التشبث بالصورة المكتملة كثيرًا ما يكون مدفوعًا بالخوف: الخوف من التغيير، أو من المجهول الذي قد يتطلبه الاعتراف بالنقص. وربما تحليل هذا الدافع الخفيّ — كيف يولّد الخوف عمىً متعمّدًا — هو حكاية تستحق مقالًا آخر.

هنا يبدأ السؤال الأصعب:

إلى أي مدى نملك الشجاعة لننظر إلى ذواتنا بلا رتوش؟

وهل نحتمل الحقيقة إن لم تكن على مقاس الصورة التي رسمناها لأنفسنا؟

ج. النقطة العمياء الروحية:

وفي المستوى الأعمق، الروحي، تتخذ النقطة العمياء شكلًا آخر. كم من حدثٍ آلمنا في لحظته، ثم شكرنا الأيام لأنه كان الطريق الخفي إلى النور؟ كم من خسارة ظننّاها نهاية، فإذا بها بابٌ لبداية أنقى؟ ولعلّ ما يؤلمنا ليس الحدث، بل ضيق الرؤية التي لا تُدرك ما وراءه. إنّنا نرى الجزء المعتم من الصورة، بينما تمتدّ الحكمة في المساحة التي لا تبلغها أعيننا بعد.

يقول الله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة: 216].

ويُروى عن الإمام عليّ بن أبي طالب : ”أبصِر بعين قلبك، لا بعين جسدك، فإن النظر بالقلب ينفذ إلى الحقائق، والنظر بالعين يقتصر على الظواهر.“ [نهج البلاغة - الحكمة 88].

عند هذه النقطة، يتسع الصمت لسؤالٍ آخر: هل يمكن أن يكون العمى المؤقت بابًا إلى بصيرةٍ أوسع؟

أم أن البصيرة لا تُولد إلا حين ننزع غشاوة الخوف عن أعين القلب؟

خاتمة: دعوة إلى الانسحاب الواعي

حين يشير أحدهم إلى المفتاح الذي لم نره، لا يقدّم لنا المساعدة فحسب، بل يوقظ فينا الانتباه. تلك اللحظة الصغيرة لا تتعلق بالمفتاح ذاته، بل بما يتفتّح في الداخل حين نكتشف أن ما نراه ليس بالضرورة كلّ ما هو موجود.

ومن هنا تبدأ حكمة النقطة العمياء. فهي ليست خللًا في الرؤية، بل مساحة يختبر فيها الإدراك صمته، ويتعلم كيف يصغي لما وراء المرئي. ربما وُجدت لتذكّرنا بأن الصورة، مهما اكتملت، تبقى ناقصة، وأن الفراغ جزء من المعنى لا نقيضه.

ولعلّ الفيلسوف أفلاطون أشار إلى هذا المعنى في أسطورة الكهف، حين تحدّث عن أولئك الذين يرون الظلال ويظنونها حقيقة، إلى أن يتّجه أحدهم نحو الضوء، فيدرك أن ما كان يراه لم يكن سوى انعكاس. وبين الظلّ والنور، يولد وعي جديد يتعلّم أن الرؤية ليست مجرّد نظر، بل بحثٌ دائم عمّا يتوارى خلف الشكل والسطح.

عند هذه النقطة، يصبح ”الانسحاب الواعي“ مجرّد لحظة تأمل، لا موقفًا ولا انسحابًا من العالم، بل توقفًا قصيرًا أمام المشهد — ليتّسع المجال للرؤية أن تقول ما لم تقله الصورة.

خاتمة الخاتمة:

وربما لم تُخلق النقطة العمياء لتُملأ، بل لتذكّرنا أن هناك دومًا ما يفلت من النظر، وأن ما لا يُرى... هو ما يمنح الرؤية معناها.

والآن، بعد أن لمسنا فكرة ما قد يخفى عن رؤيتنا، ينهض السؤال الأعمق:

كيف يمكن للوعي أن يتعلّم أن يرى ما يغفله؟ كيف نتوقّف عن ملء الفراغ بالوهم، ونمنح الحقيقة فرصة لتظهر كما هي؟

وهل نحن، حقًا، جاهزون لهذه الخطوة بعد؟

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة