رسالةٌ لم تُرسَل
لم أكتبها لأُرسِلها، بل لأُخفّف عن الذاكرةِ عبءَ صمتٍ طال.
فالعاشقُ حين يفقدُ طريقَ النداء، يبدأ بالكتابةِ كي يسمعَ نفسه.
كلُّ شيءٍ من حولي يذكّرك — حتى الأبوابُ التي كنتَ تمرّ بها بلا صوت،
حتى المقهى الذي لم نذهب إليه يومًا، لكنه يعرفُنا كما لو كُنّا نرتاده منذ قرن.
يحدثُ أحيانًا أن أُمسكَ القلمَ كما أمسكتَ يدي أوّلَ مرّة،
فأشعرُ أن الحبرَ يخافُ أن يفضحَ ارتجافي.
ليس الغيابُ ما يؤلم، بل اعتيادُه.
تبدأ الأيامُ بملءِ الفراغِ بكلماتٍ لا تُقال،
ثمّ تكتشفُ أن الفراغَ نفسه صارَ عادةً تُشبهُ التنفّس.
ما زلتُ أراكَ في لحظةِ انحناءِ الضوءِ على الغروب،
في ضحكةِ طفلٍ لا يعرفُ أن ملامحه تُشبهُك،
وفي ارتباكِ المرآةِ حين تحاولُ أن تُخفي عني وجهي القديم.
الرسائلُ التي لم أرسلها تراكمت،
صارت مدينةً صغيرةً من الورقِ والحنين.
فيها صورٌ لم تُلتقَط، واعتذاراتٌ لم تُقال،
وفي وسطها قلبي — واقفًا، كعصفورٍ أضاعَ الشجرةَ ولم يفقد السماء.
كنتَ آخرَ ضوءٍ قبلَ أن أُغمضَ قلبي.
ومذ رحلتَ، وأنا أتعلمُ كيف أعيشُ على أنفاسٍ ليست لي.
أتعثرُ في طيفِك كما يتعثرُ الوردُ في ريحٍ لا تعرفُ طريقَ العودة.
لم أُرسِلها لأنَّ الوجعَ لا يحتاجُ ساعي بريد.
يكفي أن تمرَّ النسمةُ على جدارِ قلبك،
ليصلَ الحرفُ دون عنوان،
ويجلسَ إلى جوارك كما كنتُ أفعلُ ذات مساءٍ…
حين كنا نضحكُ من لا شيء،
ونبكي من كلّ شيء.













