”ولو في الصين!“
تتقافز في مخيلتي الكثير من التساؤلات كلما مررت بالحديث الشهير المنسوب إلى النبي الأعظم ﷺ «اطلبوا العلم ولو في الصين [1] » ولأجل ذلك، قررت أن ألجأ إلى طريقة تفكيك كلمات الحديث، علّي أصل إلى نتيجة تُقنعني قبل أن تُقنع القارئ العزيز.
فمثلًا: لماذا قال ﷺ ”اطلبوا“، ولم يقل مثلًا: اسعوا إلى العلم ولو في الصين، أو تعلّموا العلم، أو ابحثوا عن العلم، أو ارتحلوا للعلم؟
الجواب — في ظني — أن كلمة ”اطلبوا“ تفيد السعي والنية والجهد، وتُخاطب الإرادة الفردية والجماعية في آنٍ واحد، بخلاف بقية الأفعال التي إما أنها أقل بلاغة في المعنى، أو تُركّز على جانب دون آخر في المعنى، فتُفقد الجملة شمولها وتحريضها المتوازن.
أما كلمة ”العلم“، فهنا يتولد سؤال آخر:
ما هو العلم الذي كان يقصده النبي الأعظم ﷺ؟
هل كان يقصد العلم الديني؟
قطعًا لا، فالصين — آنذاك، والآن — لم تكن منبعًا للعلوم الدينية الإسلامية، ولم تكن دارًا للفقه أو الحديث أو التفسير.
وهنا يتحول المعنى تلقائيًا — إن صحّ التعبير — إلى العلم الدنيوي، أو إلى كل علم نافع يُعين الإنسان على فهم الحياة وتدبيرها، ولو كان في أقصى الأرض.
ثم لماذا الصين تحديدًا؟ وليس الهند، التي تقاربها في البعد الجغرافي، وتُضاهيها في العمق الحضاري والعلمي؟
هل ذُكرت الصين على سبيل التخصيص؟ أم لأنها كانت تُعد فقط أبعد نقطة جغرافية مشهورة في أيام النبي الأعظم ﷺ، فذُكرت من باب التشجيع على تجاوز المسافات لأجل العلم؟
بل أكثر من ذلك... كأن في الحديث دعوة ضمنية لكسر المركزية الدينية والجغرافية، وللتضحية بالمال والنفيس في سبيل المعرفة، ولإعادة بناء الإنسان قبل المكان.
بل فيه أيضًا إشارة إلى الانفتاح الثقافي، حتى على من لا يحملون رسالة سماوية سابقة، وكأن العلم هنا يُطلب حيثما وُجد، لا حيثما وُلد.
وأخيرًا، لا يسعني إلا أن أقرأ في هذا الحديث — وإن كان ضعيفًا عند أهل الحديث — ومضة رمزية لأفق آخر الزمان؛ أن الصين، أو بالأحرى ’كوكب الصين’، سيغدو مهوى للأفئدة في طلب العلم، وكم كان قرار وزارة التعليم في وطننا الغالي بإدخال اللغة الصينية في المناهج الدراسية دليلًا على المواكبة وسعة الأفق [2] .
وكم أذهلني آخر إنجاز علمي للصين، حيث أحدثت ثورة فعلية في عالم الألماس، بابتكار نوع صناعي يفوق الطبيعي في الصلابة والخصائص الفيزيائية، فبات بإمكانها تصنيع 20 مليون ماسة في أسبوع واحد، وهي كمية تحتاج الأرض لإنتاجها طبيعيًا إلى مليار سنة [3] .
يعني عمليًا — كما يقول أهلنا في العراق ”طيّحت حظ الألماس“، كما طيّحت اليابان حظ اللؤلؤ في ثلاثينات القرن الماضي والحبل على الجرّار في عالم الذهب، حيث انفردت الصين بإعادة تشكيل سوق الذهب، لا عبر زيادة الكمية، بل بتحسين النوعية، فبات لسان حالها يقول: ”الذهب من عندكم، والصلابة من عندنا.“ [4]
وأختم بهذه الرواية المضيئة في فضل العلم على المال، عن سلمان الفارسي رضوان الله عليه، حين قال إن رسول الله ﷺ قال «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» فلما سمع الخوارج ذلك، حسدوا عليًا، واجتمع عشرة منهم، وقالوا: يسأل كل واحد عليًا مسألة واحدة، فإن أجابهم جميعًا بجواب واحد علموا أنه لا علم له.
فسأله الأول:
يا علي! العلم أفضل أم المال؟
قال: العلم أفضل.
قال: بأي دليل؟
قال: لأن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث قارون وهامان وفرعون.
ثم توالت الأسئلة، وكل واحد يسأل:
العلم أفضل أم المال؟
وكان عليٌّ
يُجيب كل واحد بدليل مختلف، فقال مثلًا:
العلم يحرسك، والمال تحرسه.
العلم يزيد بالإنفاق، والمال ينقص.
العلم لا يُسرق، والمال يُخشى عليه.
العلم يُنير القلب، والمال يُقسّيه.
العلم يُورث التواضع، والمال يُورث الكِبر.
حتى قال في ختام ذلك: «والله لو سألني الخلق كلهم ما دمت حيًا، لم أتبرم، ولأجبت كل واحد منهم بجواب غير جواب الآخر إلى آخر الدهر.» [5]
فالعِلمَ العِلمَ يا شباب، ففيه حياةٌ للعقول، ونفعٌ للنفوس، ورفعةٌ للأوطان. اطلبوه حيثما كان، ”ولو في الصين!“، فإن الساعي إليه لا يُقاس بخطاه، بل بما يحمل من نورٍ يعود به إلى أهله ووطنه، فيُضيء بهم الدرب، ويُعيد تشكيل المستقبل.













