آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

في انتظار الموت

سوزان آل حمود *

كم مرة رأينا تلك الأيدي التي كانت تحتضننا بحنان، وهي ترتجف وحيدة على سرير في زاوية مهجورة؟ كم مرة شاهدنا تلك العيون التي كانت تضيء لنا دروب الحياة، وهي شاردة تحدِّق في سقف لا تعرفه؟ إنها قصة الآباء والأمهات الذين أفنوا زهرة شبابهم وصحتهم ومالهم في سبيل راحة أبنائهم، فإذا بهم اليوم يسكنون في زنازين من الوحدة يُطلَق عليها «دار المسنين»، وكأنهم سجناء ينتظرون الإفراج الأخير، في عملية إخلاء مسؤولية باردة عنوانها: «دينٌ لن يُسدَّد».

نحن نتحدث عن البعض.

لقد كانت حياتهم سلسلة متواصلة من العطاء بلا حدود. الأم تحمل وهْنًا على وَهْن، وترضع وتسهر الليالي، والأبُ يكدُّ ويجتهدُ ويبذل الغالي والنفيس ليرى فلذة كبده في أحسن حال. ينشأ الابن، تتسع أحلامه، تنضجه الحياة، ثم يأتي الزواج كنقطة تحول قاسية في حياة الوالدين. فما إن تضع الزوجة قدمها في عش الزوجية، حتى يبدأ مسلسل الإقصاء البطيء.

هناك فئة من الأبناء، وقد يكونون كثرة في زماننا، يصبحون كالأعمى في رؤية الحقوق. يزور زوجته وأهلها كل أسبوع بانتظام أشبه بالطقس المقدس، بينما نسي الطريق إلى بيت من كان سببًا في وجوده. وإذا كان الوالدان معًا على قيد الحياة، فربما اكتفى بمكالمة سريعة أو زيارة خاطفة لا تُشبع حنينهم ولا تروي ظمأَهم لوجهه. ولكن، الطامة الكبرى تأتي حين يغيب أحد الوالدين بالموت. هنا يسرع الابن، غالبًا بتحريض صامت أو ظاهر من زوجة لا ترى في أم زوجها إلا عبئًا ثقيلًا، ليضع أمه المكلومة في «دار المسنين»، موهمًا نفسه أنه قد قدَّم لها خدمة أو وفَّر لها رعاية لم يكن ليُحسنها، ويبقى الوضع بالنسبة لمن هو في الدار من الوالدين «في انتظار الموت»!

يا لَلْفَرْقِ بين المشهدين! نفس الزوجة التي تحث على إيداع أم زوجها أو أبو زوجها في الدار، لو كانت أمها هي المعنية، لأقامت الدنيا وأقعدتها، ولجعلتها في قلب البيت، ولقامت على رعايتها بعينها التي لا تنام، متناسية أن «دينُ البِرِّ لا يُسدَّد إلا بالبرّ»، وأن الجزاء من جنس العمل.

إن إيداع الوالد أو الوالدةَ في دار المسنين هو في جوهره إعلان عن «موتٍ على قيد الحياة». إنه قتل للروح قبل الجسد، وإعدام بطيء للحظات الباقية من العمر. كيف يطيب له عيش، وقد ترك أصله وسبب وجوده بين جدران غريبة ووجوه لا يعرفها؟

لقد وضع الله حق الوالدين بعد حقه مباشرة، تأكيدًا لمنزلتهما وعِظَم دينهما في أعناقنا:

قال تعالى:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: الآيتان 23-24].

إنها وصية إلهية صريحة، ترتقي بالبر إلى أعلى درجات الأدب والتواضع والإحسان، خاصة في مرحلة الكِبَر والضعف حيث تشتد الحاجة إلى العون والرحمة.

يا أيها الابن الذي غاب عنه الوعي، ويا أيتها الزوجة التي أوصدت باب الرحمة، تذكَّرا أن الأيام دول، وأن السنن الكونية لا تحابي أحدًا. إن ما تقدمانه اليوم هو البذرة التي ستحصدانها غدًا في صحيفتكما، وفي معاملة أبنائكما لكما. قف للحظة وتخيَّل نفسك في ذلك المكان، تنتظر زيارة ابنك التي قد تأتي أو لا تأتي، تسترجع شريط عمرك الذي أفنيته لأجله، فتجد أن «دين الوالدية» قد تحوَّل إلى «صكّ عار» في يد من ربيته.

ختامًا،

اعلم أن بر والديك وهما تحت سقف بيتك، يجالسانك ويشاركانك طعامك وأحاديثك، خيرٌ وأبقى لك في الدنيا والآخرة من كل ما جمعت. لقوله تعالى:

﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: الآية 14].

إنه شكرٌ مقترن بشكر الله، فهل نقابل هذا العطاء السامي بالنكران والتخلي؟

عد قبل فوات الأوان، وقبِّل جبين من رباك، واجعله في بؤرة عينك، فليس على الأرض بابٌ للجنة مفتوح على مصراعيه كباب الوالدين. لا تتركه يموت مرتين؛ مرة بالضعف والكبر، ومرة بالوحدة والهجران. أدرك هذا الدين، وإن لم تُسدِّده كاملًا، فعلى الأقل لا تزده نكرانًا وتخلِّيًا.