صديق واحد يكفي
كانت الكلمات الأولى للطبيب حاسمة:
— ”سأكتب لكِ إجازة مرضية… جسدك بحاجة إلى راحة.“
لكنها لم تستسلم بسهولة، رفعت رأسها وقالت بقلق:
— ”وماذا عن العمل يا دكتور؟ هناك مراجِعون ينتظرونني… وزملاء بحاجة إليّ.“
ابتسم زوجها بأسى وقال بحنان حازم:
— ”يا عزيزتي، هذه ليست إجازة للترف، بل استراحة لتستعيدي قوتك. العمل لا ينتهي… لكن صحتك إن انهارت فلن يبقى للعمل أثر ولا معنى.“
صمتت وهي تستمع لوقع كلماته في داخلها، وكأنها تسمع الحقيقة لأول مرة. كتب الطبيب إجازة أسبوع قابلًا للتمديد، لكن قلبها رفض:
— ”يكفيني أسبوع واحد، يا دكتور.“
خرجت من المستشفى، وذهنها يضجّ بأسئلة العمل. كتبت في مجموعة الزملاء رسالة قصيرة، تفيض بالاعتذار:
”أيها الأعزاء، أعتذر عن غيابي، فقد اضطررتُ لإجازة مرضية. سامحوني إن سببت لكم مشقة… يعلم الله أني مكرهة.“
مرّ اليوم الأول ثقيلاً، لم يأتِ أي رد حتى حلول المساء، حين كتبت إحدى الزميلات ببرود:
”ربي يعافيكِ.“
قرأت الكلمة، وشعرت أنها باهتة كنسمة عابرة. أين أولئك الذين طالما أثنوا على إخلاصها؟ أين من كانوا يصفقون لإنجازاتها؟
في اليوم التالي، انتظرت اتصالًا… رسالة… شيئًا يرمم جرح قلبها. لكن الهاتف بقي صامتًا، وكأن الفراغ يسكنه.
تذكرت كم كانت تزرع البهجة في قلوب زميلاتها، تضحك معهن، تتخطى عنهن العقبات، وتحمل عنهن بعض الأعباء. أما اليوم، فهي التي تحتاج إلى كلمة عابرة، إلى ”عافاكِ الله“، إلى يدٍ تربت على كتفها.
وفي تلك اللحظات، مرت أمام عينيها ذكرى قديمة… حينما جاءت إحدى زميلاتها ترجُوها قرضًا من المال لتكمل به استعدادات زواجها. لم تتردد زهراء، مدت يدها بالمال بسخاء، دون أن تطلب ورقة تثبت ذلك الدين، ولم تُذكِّرها به يومًا. كانت تفعل ذلك بطمأنينة المحبة لا بميزان الحساب.
حين دخل زوجها ورآها شاحبة، سألها بقلق:
— ”هل نعود للمستشفى؟ أتشعرين بألم؟“
رفعت عينيها إليه والدمع يملؤهما، وقالت بصوت مكسور:
— ”أحتاج إلى من كنتُ سندًا لهم… إلى كلمة، إلى زيارة، إلى موقف يعيد إليّ عافيتي المعنوية.“
ابتسم بحزن وقال:
— ”ألم أقل لك؟ البعض يعرفكِ فقط بين جدران العمل، أما خارجه فلا وجود له. لا تدعي هذا يحطمكِ… هذه الإجازة فرصة لتدركي أن بعض الأعمال تأخذ منكِ أكثر مما تعطيكِ.“
تسللت دمعة ساخنة على وجنتيها، فانحنت على سجادة الصلاة. رفعت يديها، وأطلقت تنهيدة طويلة:
— ”يا رب، إليك أشكو وحدتي… أعطني قوةً تُنعش قلبي، واملأ أيامي بأملٍ منك لا ينقطع.“
شعرت بطمأنينة تتسرب إلى أعماقها، كنسيم فجرٍ جديد يبدد عتمة الليل.
وفي خضم هذا الصفاء، دوّى رنين الهاتف. التقطته بيد مرتعشة، فإذا بها صديقتها صفاء. جاء صوتها دافئًا مفعمًا بالشوق:
— ”أين أنتِ منذ يومين؟ نفتقدكِ كثيرًا… العمل بلا وجودكِ لا روح فيه ولا طعم.“
أغمضت عينيها، وابتسمت والدموع تنساب على وجنتيها، ثم همست لزوجها:
— ”صديق واحد يكفي… ليعيد الروح.“
وهكذا أدركت زهراء أنَّ العمل مهما كان عظيمًا لا يُعوّض دفء الكلمة ولا حنان الموقف. فالمناصب تُنسى، والإنجازات تُطوى، لكن الكلمة الصادقة تبقى في القلب حياةً لا تزول.
تعلمت أن من يسقي الآخرين لا بد أن يعتني بجذوره أولًا، وأن الصحة والروح هما رأس المال الحقيقي. كما أيقنت أن الصداقة الصادقة قد تختصر العالم كله في صوتٍ واحدٍ يطرق باب القلب، ولحظة لجوء إلى الله كافية لتعيد الأمل والحيوية.













