آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

سلامٌ من بعيد… ومودّةٌ لا تغيب

عبد الله أحمد آل نوح *

ما أجمل أن يبقى الودّ حاضرًا، لكن ما أصعب أن يتحوّل الواجب إلى عبءٍ يرهق الناس.

أصبحت المناسبات الاجتماعية - من أفراحٍ وعزاء - من أكثر الواجبات حضورًا في حياتنا اليومية، لكنها في الوقت نفسه تحوّلت إلى عبءٍ ثقيلٍ على الأفراد والمجتمع. ففي ليلةٍ واحدة قد تُقام أكثر من حفلة زفاف، ويُفتح أكثر من مجلس عزاء، فيجد الناس أنفسهم في سباقٍ محمومٍ للحضور والمشاركة، لا بدافع الترفيه أو المجاملة، بل من باب الواجب والالتزام الاجتماعي.

غير أنّ هذه الواجبات التي كانت في أصلها منبعًا للمحبّة والتواصل، صارت في بعض الأحيان مرهقةً في شكلها وتنظيمها. ففي الأعراس مثلًا، يسعى أهل العريس لتوثيق كل لحظة وتصوير كل من يشاركهم من باب الذكرى الطيبة، لكن هذا البرتوكول الجميل يتحوّل أحيانًا إلى سببٍ في تأخير الصفوف وطول الانتظار، فيضطر بعض الضيوف للمغادرة قبل أن يتمكنوا من تقديم التهنئة. وفي مجالس العزاء، تتكرر الصورة ذاتها، إذ يصطف أهل الفقيد وأقاربهم وجيرانهم لتلقّي العزاء، فيزدحم المكان ويضيق الوقت، فتضيع مشاعر المواساة الصادقة بين الزحام والتعب وكثرة المراسم.

ورغم هذا الزحام، فإن الوعي المجتمعي بدأ يظهر في مبادرات جميلة. فقد خصص بعض أصحاب المناسبات مسارًا خاصًا للمشاركة السريعة يُكتفى فيه بالسلام من بعيد دون مصافحة، حفظًا للوقت وتخفيفًا للازدحام. كما ظهرت أساليب مبتكرة أخرى، مثل تقسيم أوقات الزيارة أو تنظيم الاستقبال بطريقة تسلسلية، مما يقلل من وقت الانتظار ويُسهّل على أصحاب المناسبة والمشاركين في الوقت نفسه. هذه المبادرات لا تُلغي روح المشاركة، بل تُعبّر عن وعيٍ اجتماعي متقدّم يدرك أن القصد هو الحضور بالمشاعر لا بالطقوس الطويلة، وأن التيسير على الناس نوع من الكرم الإنساني والاحترام المتبادل.

لقد منحتنا جائحة كورونا تجربة لا تُنسى في تنظيم العلاقات الاجتماعية. حينها، التزم الناس بالتباعد وقلّت المصافحات، ومع ذلك لم تضعف مشاعر التعزية أو التهنئة، بل ربما ازدادت صدقًا وخصوصية. أدركنا حينها أن التواصل الإنساني لا يُقاس بالمسافة ولا بالمصافحة، بل بصدق النية وحضور القلب. لقد علّمتنا الأزمات أن جوهر التواصل لا يحتاج إلى ازدحام، بل إلى صدق. فلماذا لا نحتفظ ببعض تلك البروتوكولات المفيدة؟ ولماذا لا نجعل من التجربة درسًا لإعادة التوازن بين العادة والمعنى؟

أنا لا أدعو إلى التخلي عن العادات والتقاليد الجميلة، ولا إلى إلغاء روح المشاركة، بل إلى إعادة تنظيمها وتبسيطها حتى تبقى ممكنة وسهلة على الجميع. فمع تزايد عدد السكان وتنوّع المناسبات واختلاف أوقاتها، أصبح من الضروري النظر في كيفية تنظيمها بطريقة تحافظ على الجوهر وتُخفّف المشقة، بحيث نتمكّن جميعًا من أداء واجباتنا دون عناء.

إنّ التكريم الحقيقي لأهل الفرح أو لأهل المصاب لا يكون بكثرة الحضور فقط، بل بالمشاركة الهادئة والمنظمة التي تترك أثرًا طيبًا في النفس. والمجتمع الذي يُراجع عاداته بين الحين والآخر هو مجتمعٌ حيّ، قادرٌ على التطور دون أن يفقد أصالته. فلنحافظ على روح المناسبة، ونمنحها مساحة من التنظيم والرقي، لتبقى المشاركة خفيفةً على الجسد… ثقيلةً بالمعنى.

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال