آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

بين الفكر والمشاعر… اختلال التوازن الإنساني

زهراء السلهام

اهتمّ الإنسان منذ القدم بتطوير فكره، فسعى لاستكشاف المجهول حتى استطاع أن يغوص في أعماق الأرض، ويحلّق بفكره إلى سطح القمر، ويرتاد الفضاء ومجرّاته. هذا التطور العلمي والفكري المتسارع يُعد إنجازًا إيجابيًا لا يُستهان به، غير أن الجانب الآخر من الصورة يكشف خللًا عميقًا يتمثل في إهمال تطوير الذات الشعورية مقابل التركيز المفرط على تنمية الفكر.

لقد أصبحت المشاعر الذاتية لدى الإنسان في انخفاض واضح، الأمر الذي أدى إلى فقدان التوازن الداخلي والاضطراب في السلوك الجمعي. فالذات الفكرية تتطور بسرعة مذهلة، في حين تتراجع الذات الشعورية أو تُهمَل، مما يجعل الإنسان ينشغل عنها وينقطع عن مشاعره العميقة.

ومع أن الاختراعات الحديثة — كالهاتف الذكي مثلًا — سهّلت حياتنا ولبّت احتياجاتنا الفكرية والعلمية بسرعة، إلا أن الجانب الشعوري لا يمكن للآخرين النفاذ إليه أو معالجته بالسهولة نفسها. فعندما نخاف أو نحزن، لا يستطيع أحد أن يدخل إلى أعماقنا ليخلّصنا من شعورنا، لأن هذا الجانب لم يُمنح الاهتمام الكافي.

من هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في تربية الأجيال القادمة، من خلال تعزيز الجانب الشعوري جنبًا إلى جنب مع الجانب الفكري، وغرس الثقة في نفوس الطلاب والطالبات في مختلف المراحل الدراسية، لا سيما المراحل التأسيسية الأولى. فالتوازن بين هذين الجانبين هو الأساس لبناء شخصيات متكاملة ومستقرة نفسيًا واجتماعيًا.

وعند تأمل حياة أبرز العباقرة والعظماء، نجد أن الدراسات أثبتت أن تفوقهم لم يكن فكريًا فقط، بل شعوريًا أيضًا، إذ ساعدهم توازنهم الداخلي على الإبداع والتميز. وهذا يتناقض مع تركيز المناهج التعليمية حول العالم على الجوانب الأكاديمية وإهمالها للجانب الوجداني.

إن إهمال الجانب الشعوري لا يؤدي إلى جفاف المشاعر فحسب، بل إلى فقدان جزء من إنسانيتنا، لأنه هو الذي يعمّق إحساسنا بالآخرين ويمنحنا القدرة على التراحم والتعاطف. لقد أنتج التركيز المفرط على الفكر عالمًا اكتشف الذرة وسخّر الحديد وغزا الفضاء، لكنه لم يصنع السلام. بل شهدنا فوضى خلاقة، وحروبًا، وتسابقًا نحو التسلّح، من دون أن نصل إلى قواعد أمان حقيقية.

وما نعيشه اليوم ليس من صنع الله، بل من صنع البشر، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من مراجعة المسار، والعودة إلى بناء الإنسان من الداخل، بعقله وقلبه معًا، لا بعقله فقط.

إننا نتطلع إلى جيل جديد ينشأ على الحب، الأمان، والتوازن الإنساني، جيل يخطّ بحبرٍ جديد ملامح مستقبلٍ أكثر إشراقًا، ويعيد إلى سماء الحياة شمس المشاعر التي غطّتها عواصف الفكر الجاف.