آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

أمة تستحق السلام

زهراء السلهام

﴿قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف: 35-36]

هذا ما وجدته في الفردوس الذي أصبح أطلالًا، وكأن ما كان من حياة على ضفافه كأنه شيئًا لم يكن.

درجة الحرارة ما دون الصفر، ونسمات الهواء الباردة تمر، فصقيعٌ يلفح الوجوه، فالجو متجمّد، والفردوس خلع ثوب الخضار، وجلس على كرسي الانتظار ناثرًا شعره، شاحبًا لونه، خاويًا على عروشه. تأخّر مزيّنه عن تجليه وارتدائه للبياض، فالأفق لم يطلق العنان لنثر لآلئ السماء وإنزالها على سطح الأرض حتى لا تطأها الأقدام، فها هو الفردوس أمسى خاويًا على عروشه؛ حتى لا نكاد أن نرى غير بقايا الأشجار، أخشاب سوداء تمد أغصانها تضرّعًا لتسترها السماء.

من زجاج نافذتي ألمح ثلاثةَ طيورٍ تقف على سياجها، تلتقط حبًّا بحميمية. رأيت أحدهم غاب فظننته طار وتركهم، ولكن سرعان ما عاد، ثم طار ثانية، ومن ثم عاد الثلاثة بمناقيرهم يحملون الحب ويغرّدون بفرح في درجة حرارة ما دون الصفر، يمارسون طيرانهم، ويحطّون بغذائهم في ذلك الجو المتجمّد.

نزلت ذرات الثلج كالقطن الأبيض تستقبلها أغصان الأشجار، فأعطاها تألّقًا تتباهى به في احتفال عيد الشكر «Thanksgiving»، الذي يحتفل به المسيحيون من الشعب الأمريكي؛ شكرًا لله لوصول اللاجئين بعد فرارهم من فرنسا بسبب التضييق عليهم بمنعهم من ممارسة حرياتهم الدينية، فنزحوا إلى أمريكا عن طريق المحيط، لأن أمريكا أعطتهم حقّ التمتع بمزاولة حرياتهم بعد أن تُوُفِّيَ نصفهم غرقًا بالمحيط.

وهذه مشاكل البشر مع عقائدهم على مرّ العصور، فالغرب تعلَّمَ مما أصابه وحفظ الدرس جيدًا واعتبر، وما أصابه من حروب تدارك، ولم تبقَ غير أمة لا إله إلا الله تستجير من الرمضاء بالنار، فبالبحث والتنقيب بتاريخها المجيد نستخلص ذهبًا خامًا من مناجمَ دُفنت برماد الزيف.

ولمعت بدخانٍ خانق؛ ليدرأ عن نبش بيوت العنكبوت وما تخفيه من وهنٍ، حتى لا يدركه نور الله، ويحطم شرانقه المزيفة في غياهب الظنون المحبوكة بأقلام مقلوبة، حبرها زيف مأجور.

بِعتبٍ جسيمٍ ولومٍ حكيمٍ، آن الأوان لإظهار حقيقة تهتز لها الأبدان، غطّت شموسًا أضاءت دروب البشر، وكسرت مصابيح دُجى أنارت ظلام الليل، وقدّمت أرواحها قرابين لتستيقظ الإنسانية من رقدة الكهوف، وتنفض عن أجسادها الزيف والخنوع.

قدّم ابن سيد المرسلين نفسه وأهله ونساءه وأبناءه وأصحابه هبةً بحرب لم يعرف التاريخ لها مثيلًا، بطلها الحق، ومغنمها العدالة والسلام، لأمة غرقت في وحل الظلام، وعدوّها الباطل الذي جسّد الظلم وأخفى النور وحجب النهار. ما نعيشه اليوم إلا نتيجة قراءتنا لتاريخ مغلوب، لم نتدبّر ولم نعتبر بما صار لمناهج التغيير، فلا يمكن الفصل بين الحاضر والماضي.

الإمام علي يحثّ ابنه الحسن على دراسة ما مضى، فقال:

«... فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ... فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ».

لم يروِ لنا التاريخ ”يا ما كان“، ولا ما حدث في سابق العصر والزمان، غير ألف ليلة وليلة، وحكم الخليفة، وإنجازات الوليد، وحجّ هارون، وخروجه على الوالي يزيد.

وها نحن نعيش ألف ليلة وليلة من ليالٍ حلّقت بنا طائرة الغفلة في الفضاء عاليًا، حتى كنا قاب قوسين أو أدنى، حتى كثرت تيارات الأهواء، وضاعت البيانات، ولم ندرك الطريق. فلم يحملنا جبريل بجناحيه، ولم ينقذنا ميكائيل، ولا الملائكة المقرّبون الذين حملوا رسول الله، بل حملنا الحديد ولم نصل إلى العرش، ولم نرقَ لربٍّ جليل، بل هوت بنا الطائرة إلى الأرض، وارتطمت على الأخضر واليابس، فقُتل من قُتل، وسُبي من سُبي، وأُقصي من أُقصي، فلم يسلم منها أطفال ولا نساء، ولا كبار سنٍّ ولا صغار.

تُروى حكايات يشيب منها الرأس، ويعرق لها الجبين. وبدل أن نروي حكايات ألف ليلة وليلة، نصحّح القديم حتى نرى الجديد، ونستيقظ على طريقٍ صالحٍ للمسير. وجرى القضاء بما يُرجى له حسن المثوبة، إذ ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف - 128].

فمنهم من ركب السفن، وعلى ذيول الأشرعة تعلّقوا، ومنهم من تحت الماء سقطوا وغرقوا، ومنهم من على الشواطئ وصلوا.

أما آن الأوان أن نعتبر، وننهض من غفلتنا، ونقول للدخلاء كفى، دعونا وشأننا، نحن من صنع المجد سالفًا، نحن من لمسنا عنان السماء بوحدتنا، بإيماننا، بتوحيدنا، جموع الأكوان أصبحت لنا.