القراءة في كتاب ”قواعد السطوة“
مع كتاب قراءة قواعد السطوة، للمؤلف / روبرت جرين، ترجمة وتقديم / د. هشام الحناوي، الطبعة الأولى: 1432 هـ / 2011 م.
يتميز البشر بابتكارهم الدائم للصيغ والأعراف، ونادرًا ما يعبر الناس عن مشاعرهم مباشرةً، بل يضعونها في صياغات معينة من اللغة أو ممارسات يقبلها المجتمع. ولا نستطيع نقل مشاعرنا للآخرين بدون هذه الصياغات والأعراف.
لكن الأعراف تتغير باستمرار. ولا تعبر الأزياء ولا أساليب التعامل وغيرها من الظواهر الاجتماعية إلا عن مزاج عصرها. الناس يغيرون باستمرار الأعراف التي ورثوها عن آبائهم، وهذا التغير يوحي بالحيوية والنشاط، وما لا يتغير ويتجمد في قوالب محددة يوحي لنا بالموت ويولد لدينا الرغبة في تدميره. ويظهر ذلك بوضوح لدى الشباب؛ فميلهم الجارف للتمرد على الأعراف التي يفرضها عليهم المجتمع وافتقادهم للإحساس بالهوية يجعلهم يبذلون جهودًا لتعديل شخصياتهم ويحاربون مختلف الأقنعة والأساليب للتعبير عن أنفسهم، وحيويتهم هذه هي المحرك الأساسي للتغيير الدائم لأعراف وأساليب التعاملات في المجتمع.
أصحاب السطوة غالبًا ما يُظهرون في شبابهم قدرات إبداعية هائلة في ابتكار واقع جديد له أعراف اجتماعية مختلفة، ويكافئهم مجتمعهم المتعطش للتجديد بمنحهم السطوة. لكن غالبًا ما تتعقد الأمور لاحقًا حين يكبر هؤلاء ويميلون إلى الجمود والحفاظ على ما تحقق لهم ويتخلون عن حلمهم بالتجديد، وتتيبس هوياتهم، فيميلون إلى المجاراة السائدة، ويجعل تيبّسُهم عرضةً للإيذاء؛ فَيَتوقع الآخرون تحركاتهم ويملّون بقائهم الطويل على الساحة، ويقول الناس لهم: «ارحلوا عنا وأخلوا الساحة، الآخرون غيركم أكثر شبابًا وفتوةً، نشعر معهم بالأمل والارتياح.» تجمّد السطوة في قوالب الماضي يجعل استمرارهم هزليًا، كالثمار اليانعة التي آن لها أن تسقط.
لا تستمر السطوة إلا حين تكون مرنة. عدم الجمود لا يعني فقدان الهيئة. المرونة المقصودة هي أن تكون السطوة كالماء أو الزئبق، فتتخذ هيئة ما يحيط بها. تغيير أصحاب السطوة المستمر لأساليبهم يجعل من الصعب على خصومهم فهم أو توقع تحركاتهم، حتى لا يجدوا أشياء محددة يهاجمونها. وذلك هو التهيؤ الأمثل للسطوة: أن تكون مراوغة ورشيقة ويصعُب توقع تحركاتها. مثل عطارد، ربّ الزئبق عند الرومان القدماء، الذي يتخذ أي شكل يريده ليخدع ويدمر من يشاء في جبل الأولمب «جبل الآلهة».
الإبداع البشري يتطور تدريجيًا نحو التجريد والخيال ويبتعد عن المادية والتجسّد: تلك هي الاستراتيجية في أروع صورها. أصبحت حروب الاشتباك مكلفة وخطيرة، أما الالتفاف والمراوغة فيحققان لك الكثير دون أن تبذل إلا أقل القليل؛ كل ما تبذله هو أن تتخيل طرقًا لبعثرة تحركاتك حتى تشتت خصمك، وأن تفهم طرق تفكيره ونقاط ضعفه النفسية حتى تقوّض تحركاته. ولا تجمد نفسك في نسق واحد. وفي عالمنا الذي يتزايد فيه الاعتماد على حروب المراوغة والفرار، أصبحت للمرونة قيمة مصيرية.
أهم المتطلبات النفسية للمرونة: هي ألا تتعامل مع الأمور وكأنها تمسّك شخصيًا، وأن لا تلجأ أبدًا إلى الدفاعية والتبرير؛ حين تتصرف بدفاعية، تبين لخصمك أنك تتأثر نفسيًا، وهذا يجعله يقرأ شخصيتك ويعرف كيف يستثيرك، وستجده يضرب على هذا الوتر مرارًا وتكرارًا. دَرِّبْ نفسك على ألا تأخذ أي أمر على محمل شخصي حتى لا يمتطيك أعداؤك ويحركونك من نقاط تأثرك. كن كالكرة الزلقة التي يصعب الإمساك بها: فلا تكشف لأحد ما الذي يخيفك أو يغريك أو يغضبك، لأن هذه نقاط ضعف تمكن الآخرين من استدراجك. اجعل وجهك بلا تعابير محددة، لأن ذلك سيشوش ويغيظ من يحاول أن يكيد لك من خصومك أو زملائك.













