عندما تهوي الأمانة ويزهر الحرام
لا توجد علاقة أسمى وأكثر قدسية من رابطة الأخوة. إنها لحمة تتجاوز المصالح الدنيوية، وتمتد جذورها عميقًا في فطرة الإنسان وتكوينه. لطالما كانت الأخوة سندًا وعضدًا، ملاذًا آمنًا في تقلبات الدهر. ولكن، ماذا لو كان هذا السند نابعًا من الجوار قبل أن يكون من الدم؟ ماذا لو أصبح الجار أخًا، بل وأكثر؟
عندما تجمعك الصداقة والجوار مع شخص منذ الطفولة، يصبح قريبًا من روحك، يتقاسم معك الأفراح والأتراح، ويكون سندك الذي لا يتزعزع. الجار الصادق هو كنز ثمين لا يقدر بثمن، فهو يقدم الدعم غير المشروط والتفهم والتعاطف دون انتظار مقابل.
وقد عظّم الإسلام هذه الروابط، سواء كانت أخوة الدم أو أخوة الجوار، فجاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتؤكد على عظم شأنها وأهمية صيانتها. قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾ [النساء: 36]. كما قال رسول الله ﷺ: ”المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه“. هذه النصوص توضح أن أساس هذه العلاقة هو العدل والنصرة والتعاطف، فالأخوة الصادقة والجوار الأمين هما منارات تضيء دروب الحياة وتمنح السكينة والاطمئنان.
لكن، وما أتعسها من حقيقة، أن هذه العلاقات الروحانية العميقة، وهذا البناء الشامخ من المودة والثقة، قد يتعرض للاهتزاز والانهيار بتدخل ضعاف النفوس، الذين لا ترعى لهم ذمة ولا تهمهم أواصر القربى. أحيانًا يكون هذا التدخل من أقرب الناس، كالزوجة أو الأخت، التي بدلًا من أن تكون صمام أمان ولبنة بناء، تتحول إلى معول هدم، تسعى لتفريق الشمل وإفساد ذات البين، خدمة لمصالح شخصية دنيئة أو لأحقاد دفينة، غير آبهة بما يحل بالعائلة من دمار، ولا بما يغضب الرب من شرور.
في قلب إحدى العائلات التي اشتهرت بتماسكها، كان هناك أخوة متحابون، وعلاقتهم مع الجيران عظيمة، فكانوا سندًا لبعضهم البعض يتقاسمون الأفراح والأتراح. كان الجار يرى بعين البصيرة تلاعبات زوجة صديقه الذي اعتبره أخًا له. أفعالها كانت تثير الشكوك وتخالف المروءة، لكنه كان يستر عليها، متوخيًا الحفاظ على استقرار بيت صديقه، ظنًا منه أن هذا الستر سيقوّمها ويعيدها إلى رشدها.
لكن ضعيفة النفس لم تزدها هذه الستارة إلا جرأة، فقد كانت تخطط في الخفاء وتنسج فخًا محكمًا للإيقاع بهذا الجار الذي رأته عقبة في طريقها. هدفها كان تفريق شمل زوجها والجار، حتى لا ينكشف أمرها وتستمر في لعبة التلاعب والخديعة. وبالفعل، نجحت في عزل الجار الناصح عن زوجها، مستغلة ضعف زوجها وولعه بالمال.
لقد قامت بمساعدة زوجها بطرق ملتوية وغير شرعية، فازداد ثراءه الفاحش في ليلة وضحاها. تحوّل من موظف بسيط إلى صاحب أراضٍ وبيوت وعقارات ومعارض ومؤسسة، لم تكن سوى واجهة لأعمال مهربات وممنوعات. وعندما حاول الجار، بقلب مفعم بالمحبة والغيرة، نصح صديقه بترك هذه الأمور وأن نزاهة المال الحرام لن تدوم، لم يجد نصحه آذانًا صاغية. بل كان ذلك بمثابة وقود لزوجة صديقه لتنفيذ خطتها الجهنمية، وإبعاد هذا الجار عن كل العائلة.
أصبح الجار الوفي ضحية مؤامرة محبوكة، فالعائلة بأكملها، رغم علمهم بالخديعة، أعمى أعينهم المال الحرام الذي كانوا يجنونه. رضوا بتشويه سمعة الجار البريء، وأرضوا تلك المرأة العابثة التي قادتهم إلى الهاوية. بل إنها وصلت إلى حد جعلت زوجها يتورط في كل منكر ومحرم، يسافر بعيدًا لتكون المحرمات بمنأى عن بلاده وسمعته الظاهرية. قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...﴾ [البقرة: 188].
شاء الله، بحكمته البالغة وعدله الذي لا يغفل ولا ينام، أن ينكشف المستور. فمهما طال ليل الظلم، فلا بد لشمس الحقيقة أن تشرق. بدأت الجهات المختصة في عملها، تحقيقات دقيقة تكشف أسرار الثراء الفاحش غير المبرر، وتتبع خيوط شبكات التهريب وغسيل الأموال.
إن هذه القصة المؤلمة، التي تجسد ”حين تهوي الأمانة ويزهر الحرام“، تذكرنا بحقيقة لا تتغير: أن الشر والحرام لا يمكن أن يستمر. فمهما بدا للبعض أنهم يجنون الثمار بسهولة، ومهما تراكمت أموالهم بطرق غير مشروعة، فإن حبل الباطل قصير، ونهاية طريق الغش والخيانة هي الخسران والندم.
إن الدول والمجتمعات الحديثة لا تتهاون في مكافحة الجريمة المنظمة، خاصة تلك التي تهدد أمنها الاقتصادي والاجتماعي. فالجهات الأمنية والقضائية تعمل بجد لكشف وملاحقة أولئك الذين يغسلون الأموال أو يتجرون بالمحرمات التي تفسد الأفراد وتهدم المجتمعات. العدالة الإلهية قد تتأخر، لكنها حتمًا ستأتي، وعدالة الدولة ستلاحق المفسدين لينالوا جزاءهم العادل.
ليكن هذا درسًا لكل من تسول له نفسه الخيانة، سواء كانت خيانة للأمانة، أو خيانة للأخوة، أو خيانة للوطن. فالله يمهل ولا يهمل، والقانون يطارد المفسدين، ولن يفلح من يأكل الحرام أو يفرق بين الأحبة. ستنكشف الأوراق، وسيسقط القناع، وستتلقى الأيدي الآثمة جزاءها، ليعود الحق إلى نصابه، ولتعود الأمانة إلى أهلها، وإن طال أمد بيانه.













