بين الخيمة والممشى: قراءة في الأنوثة والمتخيل السردي عند حسن البطران
يُعَدّ حسن البطران من الأصوات السّرديّة العربيّة الّتي تتجاوز حدود الواقع المادي لترسم فضاءات نفسيّة معقدة. ففي مجموعتيه ”وأجري خلف خولة“ و”أمشي وبجواري تمشي سلمى“، لا يكتفي الكاتب بالسّرد التقليديّ، بل يبني عالمًا رمزيًّا قائمًا على بنية هندسيّة محكمة. هذه البنية تُفضي إلى كشف عميق عن العقد النفسيّة للمرأة التي تُمثّل هنا انعكاسًا للذات والوعي الجمعي. إنّ دراسة هاتين المجموعتين تظهر تقابلًا فريدًا بين ”الخيمة“ كفضاء للماضي، و”الممشى“ كرحلة في الحاضر، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين المكان والنفس في السرد القصصي القصير جدًّا.
يستخدم البطران بنية قصصيّة غير تقليديّة تُحيل إلى أبعاد نفسيّة وفلسفيّة. ففي مجموعته ”وأجري خلف خولة“ يتخذ الكاتب من ”الخيمة“ رمزًا للفضاء المغلق الّذي يضمّ الذّكريات، والحنين، والبحث عن الجذور. الخيمة ليست مجرد مسكن بدوي، بل هي مساحة للانكشاف والاعتراف، إذ يسعى الراوي لإعادة بناء علاقته بـ ”خولة“ التي تمثّل ذاته المفقودة في الماضي. إنّ القصّة هنا تُحاكي رحلة العودة إلى الذّات المنسيّة. هذا الفضاء المغلق يُشير إلى محاولة استعادة زمن مضى، حيث الزّمن والذّاكرة يتقاطعان في فضاء مكثّف ومُغلق. هذا البناء القصصي يعكس فكرة أنّ الحنين ليس مجرد شعور، بل هو فعلٌ سردي يهدف إلى إعادة ترتيب الماضي وفهمه. القصص هنا تُبنى على التكثيف والرمزيّة، إذ كلّ تفصيل صغير في الخيمة يحمل دلالة على حدث أو شعور.
أما في مجموعته ”أمشي وبجواري تمشي سلمى“، فتتحول البنية من ”الخيمة“ المغلقة إلى ”الممشى“ المفتوح. هنا يصبح السرد رحلة وجوديّة في متاهات الوعي. ”الممشى“ يمثل مسارًا لا نهائيًّا، إذ لا تكتمل الرحلة ولا تصل إلى نهاية محدّدة، كما يشير البطران في الخاتمة: ”ما زلت مستمرًا في المشي، لم أنته من مشواري بعد“. هذا التحول من ”الخيمة“ إلى ”الممشى“ يُظهر انتقالًا في وعي الكاتب من البحث عن الماضي إلى التعايش مع الحاضر، ومن الانغلاق على الذّات إلى الانفتاح على العالم. هذا التحول ليس مجرد تغيير في المكان، بل هو تغيير في فلسفة السرد نفسها. القصص في هذه المجموعة تتسم بسلاسة أكبر في تدفقها، ما يعكس طبيعة الرحلة المستمرة وغير النهائيّة.
تُمثّل شخصيتا ”خولة“ و”سلمى“ قطبيْن رئيسيين في عالم البطران السرديّ، لكنهما لا تمثّلان مجرد شخصيتين، بل هما تجسيد رمزي لأبعاد نفسيّة مختلفة:
”خولة“ رمز الحنين إلى الماضي، ففي ”وأجري خلف خولة“ تُعدّ ”خولة“ تجسيدًا للحنين إلى مرحلة الطفولة والبراءة. إنّها تمثل الذات التي يحاول الراوي استعادتها. العلاقة مع ”خولة“ هي علاقة مع الماضي، حيث يركض الراوي خلفها في محاولة يائسة لاستعادة ما لا يمكن استعادته. إنّ هذا الركض لا يمثل ركضًا فعلًا جسديًّا بقدر ما هو ركض رمزيّ خلف الذاكرة. ”خولة“ هنا ليست واقعًا، بل هي فكرة، حلم، أو ذكرى تُلاحق الراوي.
”سلمى“ رمز الوعي والذات: في ”أمشي وبجواري تمشي سلمى“، تُقدّم ”سلمى“ كرمز للوعي والذات. فهي في البداية تُهدى إلى ”كلّ روح جميلة ونقية ومتزنة“، لكنها لا تلبث أنّ تتحول إلى فكرة أو رفيقة في اللاوعي. في قصّة ”أنا سلمى“ جاء فيها: أمشي وبجواري تمشي سلمى، لكنّها تعثرت فأمسكتُ بيدها ونهضتُ.. هرولت وبعدت عنها مسافة كبيرة، نادتني «حسن» التفت نحوها، لوحت لي بيدها، لم أقف، حينما وصلت وجدتها تهيء لي المكان الذي أقصده...!
يصبح الراوي و”سلمى“ كيانًا واحدًا، ما يدل على أنّ البحث عن ”سلمى“ هو بحث عن الذات نفسها. إنّها ليست كائنًا منفصلًا، بل هي جزءٌ من الراوي، تُوجهه وتُرافقه في رحلته الوجوديّة. هذه الثنائيّة بين الذات والآخر تُذاب لتصبح وحدة واحدة، مما يُعطي بعدًا فلسفيًّا عميقًا للنّصّ.
يغوص الكاتب حسن البطران في أعماق النفس الإنسانيّة ليكشف عن عقدها وآليات دفاعها، خاصّة في شخصيات المرأة التي تُصبح بؤرة لهذا التحليل. يُظهر البطران صراع الهويّة بحدّة، كما في قصّة ”جثة“، إذ تواجه الشّخصيّة بأنّ هويتها التي كانت تخدع بها نفسها ليست سوى ”جثة“ على سريرها، مما يكشف عن التناقض بين الصّورة الخارجيّة والذّات الميتة. وفي قصّة ”إنصاف“، يظهر التناقض بين الصّورة التي يراها الرجل في نفسه والصّورة التي يراها الآخرون، مما يُسلط الضوء على أزمة الهويّة المزدوجة.
كما يستخدم الكاتب رموزًا بصريّة للتعبير عن آليات الدفاع النفسي. ففي قصّة ”كمامة“ يرمز ارتداء ”الكمامة السوداء“ إلى الهروب من الأحكام الاجتماعية والاختباء وراء قناع. هذا القناع ليس مجرد حماية، بل هو سجن يحدّ من حرية الذات في التعبير عن نفسها. وفي قصّة ”نظارات شمسية وقفازات خضراء“، ترمز النظارات إلى العمى النفسي، إذ ترفض الشّخصيّة رؤية الواقع كما هو، بينما ترمز القفازات إلى عدم القدرة على لمس الواقع مباشرة. هذه الرموز تُعزز فكرة أنّ العقد النفسيّة تُعاش في فضاء رمزي، وليس في واقع مادي.
في نهاية المطاف، يُظهر حسن البطران قدرة فريدة على استخدام الرمزيّة والبنية الهندسية للسرد. فبين ”الخيمة“ التي تُعيدنا إلى الماضي و”الممشى“ الذي يُبقينا في رحلة لا تنتهي، يستكشف الكاتب أعماق النفس البشريّة. إنّ المرأة في قصصه ليست مجرد شخصية، بل هي مرآة تعكس صراعات الإنسان الوجوديّة في البحث عن هويته ويقينه، وتُقدم لنا خريطة سيميائيّة للعقد النفسيّة وآليات الدفاع التي يُوظفها الإنسان في رحلته الواعيّة. إنّ هذا التوظيف المتقن للفضاء والرمز يؤكّد على أنّ القصّة القصيرة جدًا في يد البطران تتحول إلى أداة فلسفيّة عميقة.













