الحسين صوتٌ يُحاصر الضمائر
بعض اللحظات تأبى أن تذوب في خارطة النسيان. صرخاتٌ تتجاوز الزمان والمكان، إنها تسكن الضلوع، فهل بكيناها بصدق؟ أم خذلناها بصمتٍ يورث الجبن؟
إنّ كربلاء ليست مجرد قصة نرويها ثم نطويها. إنها صدى يرنّ في الضمائر كلما واجهنا الظلم وارتعدت القلوب، كلما اخترنا الصمت حين يجب الكلام، كلما خشينا المواجهة حين ينادينا صوت الحق. الحسين ليس شخصًا من الماضي، بل هو صوتٌ أبدي للضمير. يتردد في كل زمان ومكان، في كل صراع بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، بين اليقظة والسكون.
هذا المقال ليس سردًا للماضي، ولا محاكمةً لأحد؛ بل دعوةٌ لرحلةٍ داخلية عميقة، نبحث فيها عن ”الحسين“ في صراعاتنا اليومية، وفي مواجهاتنا الحياتية، فهل نجرؤ على مواجهة مرآة الأرواح؟
هل قتلت تلك الروح يدٌ حاقدة؟ أم تراكم الخوف الذي جثم على القلوب، ووهن العزيمة الذي أصاب النفوس، وتبدُّل المواقف حتى من أقرب الناس، وصمتٌ كان أحدّ من حدّ السيف؟
ليست مأساة فرد أو جماعة، بل مأساة إنسانية معقّدة. حين تغفل السلطة الرحمة، وتتبدد الوعود، وتتأرجح الجماهير بين حماسٍ عابر وخذلانٍ مُبين، تنسج المأساة خيوطها الثقيلة. لم يكن خروج الحسين تهورًا، ولا بحثًا عن سلطة زائلة؛ بل إيمانًا عميقًا، ورفضًا لانحرافٍ بات يهدد جوهر القيم.
كان تجديدًا لرسالةٍ نبويةٍ شوهتها السياسة باسم الأمن والطاعة. كان صوتًا يرى ما لا تراه العيون، يرسم خطًّا أحمر لا يجوز تجاوزه. ثمن الصمت عن الحق أكبر من ثمن المواجهة. فهل ندرك ذلك؟
متى تتحوّل الطاعة إلى قيدٍ يُغمض العين عن الحق؟ ومتى يصبح الصمت، المبرر بالحكمة، مشاركةً خفيةً في الجريمة؟ هذا الجرح ما زال ينزف في ضمير الأمة، لا يشعر به إلا من يواجه نفسه بصدق.
كانت هناك أصوات تدعو للحكمة، بنية صادقة ربما. لكنها سكتت أو لم تُرفع بصوتٍ يُسمَع. فتركَت فراغًا امتلأ بالدماء. ألم اللحظة ليس في السيف الذي قتل الجسد، بل في الصمت الذي قتل الضمير، وفي التردد الذي قاد إلى العزلة والخذلان.
الخوف اختبارٌ بشري دائم، بين شجاعة المواجهة ورغبة السلامة.
الصمت ليس دائمًا حكمة؛ أحيانًا يكون أجمل أقنعة الجبن، وأخطرها… يُسلّم المفاتيح للدماء، ويُطيل عمر الظلم.
الدم الذي سُفك في تلك البقعة المقدسة لا يُقاس بأسماء الجلادين، ولا تُبرّره طائفة، ولا تعذره سياسة. حين يُذبح الإنسان باسم الحكمة المزعومة، أو وحدة الجماعة الزائفة، أو طاعةٍ عمياء لا تُبصر، أو خوفٍ من الفتنة؛ تضيع الأمة كلها في وحلٍ من الدماء، حتى لو لم تُسلّ سيوفها بيدٍ مباشرة. لم يكن الحسين ينادي: ”من يقاتل معي؟“، بل قالها بوضوحٍ خالد:
”إنّي لم أخرج أشِرًا ولا بَطِرًا، ولا مُفسِدًا ولا ظالمًا؛ إنما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر“.
وإليك هذا السؤال: هل فيك الحسين الذي يأبى الذل؟ أم فيك المدينة التي أغلقت أبوابها حين نادى الحق؟ الأيادي التي لا تُرفع لنصرة الحق، والعيون التي تُغمض عن الظلم، قد تكون أشد قسوة من تلك السيوف.
كربلاء تعلّمنا أن قدسية الدم الإنساني لا تُبررها ذرائع سياسية أو دينية إذا كان الظلم هو الدافع.
السكوت عن الحق يدفن الضمير قبل الجسد، ويمنح الظلم حياةً أخرى.
هذه المأساة لم تُختزل في كتب التاريخ، ولم تُصبح حكرًا على مذهب يبكيها وحده. الدم الذي سُفك لم يسأل عن طائفة، بل بقي صرخة لكل قلبٍ يرفض الظلم، ويُدرك ثمن العدل.
صدى كربلاء يتباين بين النفوس:
من يراها حزنًا وطقسًا روحيًا، ومن يراها درسًا في الشجاعة والتضحية. لكن الجوهر لا يختلف: رفض الظلم، إجلال التضحية، والسعي الدائم للعدل.
كربلاء ليست ذكرى انقضى زمنها، بل مرآةٌ للروح. تُظهر أزمنة الصمت والخذلان، وتكشف كيف يختار الضمير موقفه بين الحق والباطل. إنها لا تُفرّق الناس، بل توحدهم في استنكار الظلم.
بعد قرون من تلك الصرخة، لا تزال الأسئلة تُحاصرنا: هل نُجيبها بالبكاء على ماضٍ لا يعود؟ أم باليقظة في حاضرٍ يُشبهه كثيرًا؟
الحسين ليس رمزًا للماضي، بل روحٌ تُعاد ولادتها كلما اختار إنسانٌ العدل رغم الخوف، والشجاعة رغم الخذلان. لا نُحيي الحسين بترديد اسمه، بل بإنصاتنا لصوته حين ينادي بالعدل في زمن الفساد، ويصرخ الحق في وجه الباطل. لا يطلب تمجيدًا فارغًا، ولا دموعًا تجف، بل استمرارًا لروحه فينا. إن أردنا أن نكون من أمّته، فلنكن من ضميره… الذي لا يرضى ظلمًا، ولا يقبل ذلًّا. كربلاء ليست أرضًا، بل موقف خالد لا يمحى. إنّ هذا الموقف يُصنع اليوم: بقلبٍ لا يخاف، وروحٍ لا تسكت، وعينٍ لا يطمسها الصمت.
إن لم تكن في صفّه حين وقف وحيدًا، فكن في صفّه حين يُعاد المشهد… حين يناديك ضميرك لتقول كلمة حق، أو ترفض ظلمًا.
الحسين لا يطلب أن تُرفع رايته، بل أن تُرفع إنسانيتك… وأن تستفيق روحك لتضيء دروب الحياة.