آخر تحديث: 11 / 7 / 2025م - 1:05 ص

بركةُ الحسين.. حين يُطعِمُ القلبَ قبلَ المائدة

عماد آل عبيدان

كنتُ مع اثنين من أولادي، أحدهما قادم من أميركا، في أيام محرم، حين اشتعلت القطيف بعطر عاشوراء، وبكرمِ من يشبهون النهر.. لا يسألك من أين أتيت، يكفي أنك عطشان.

في القطيف، حين تُرفعُ راية الحسين، لا يُكتفى بالبكاء ولا بالنحيب، بل يُقدّم الحزنُ على هيئة ماءٍ وتمرة، شوربةٍ ساخنة، أو قطعة من الخبز المصحوب بكلمة طيّبة. هنا، لا تُوزَّع الأطعمة فقط، بل تُوزّع القلوب أيضًا.. مفروشةً على الأرصفة، تُرحّب بالغريب قبل القريب، وتتوسّل للمحبين أن يبقوا أكثر.

دخلنا أحد المجالس، فسبقتنا البشاشة، وتسابق الناس على تقديم كل ما تيسّر، لا يسألونك: من تكون؟ بل يقولون لك: أهلاً بمن أتى في حبّ الحسين.

قال لي ولدي:

”يا أبي، لم أرَ في بلدانٍ كثيرة، لا شرقًا ولا غربًا، هذه الحرارة في العطاء، ولا هذا التماهي بين الوجدان والضيافة. هنا، الناس يقدّمون كل شيء وكأنهم لا يملكون شيئًا، وكأنّ البركة تُكافئهم في ذات اللحظة.“

ابتسمتُ وقلتُ له:

”نحن لا نُطعم بطون الناس فحسب، نحن نُطعمهم من بركة الحسين. هذا العطاء لا يُقاس بالكميّة ولا بالقدرة الشرائية، بل يُقاس بالنية، وبالوهج الذي ينبتُ في قلب المؤمن حين ينفق.“

البركة هنا لا تعني الطعام وحده، بل تعني أن ترى الجار يطبخ لجيرانه دون دعوة، وأن ترى الشاب يقدّم ماءً باردًا وهو مبتسم رغم حرارة الشمس، وأن ترى الأطفال يُشاركون في موكبٍ كأنهم أصحاب رسالة، لا مجرّد مشاركين.

البركة، حين يكون الحسين ضيفَ كل بيت، ومضيفَ كل قلب.

لا أحد هنا يُفكّر في الفائض، بل في الأثر. لا أحد يقول ”أعطني“، بل يقول ”خذ“.

وإن قال بعضهم: ”لماذا التوزيع بهذا السخاء؟ لمَ لا نُرتّب الأمور؟ لمَ لا نعطي هذا ونمنع ذاك؟“

أقول: وهل تظنّ أن بركة الحسين تُحدّ بمقياس أو تُوزن بميزان؟!

هذا الكرم الحسيني لا يُعطى بالقطّارة، بل يُفجّر من منابع الوفاء، ومن كفّ ساقٍ لم يشرب، ليشرب الآخرون.

في القطيف، لا توزَّع الوجبات.. بل تُوزّع القيم، والوجدان، والإيمان.

تأتي إلى المجلس باحثًا عن الموعظة، فتخرج مشبعًا بكل شيء: بالكلمة، وبالماء، وبالوجوه التي تُضيء ولو كانت متعبة.

أبنائي عادوا وقد شربوا شيئًا لم يذوقوه من قبل.. ليس حساءً ولا مشروبًا، بل ذاقوا الطيبة المتوارثة من آباء تعلموا من الحسين كيف يكون الإنسان إنسانًا.

ذاقوا شيئًا اسمه: الكرم الذي لا يسأل عن الهوية، بل يكتفي بكونك إنسانًا جاء حبًا للحسين.

وفي بلدانٍ أخرى، لا تجد هذا الدفء، ولا هذا البذل، بل ترى الاحتياط المادي كأن الناس يوزّعون الحسنة بعد خصم الضرائب، ويحسبون الضيف على أنه عبء، لا بركة.

نحن لا ندعو للتبذير، بل للقلوب الندية، للعطاء الذي يحمل في طياته رسالة. فكما أن عاشوراء ليست مجرد مصاب، فهي أيضًا مدرسة قيم، وأحد دروسها الكبرى: أن الكرمَ لا يُستجدَى، بل يُستسقى من نبع الحسين.

في كل موكب، ترى تاجرًا وطفلًا، خادمًا وصاحب محلّ، رجلًا وزوجته، الكل يعمل من أجل الحسين.. لا أحد يربح وحده، الجميع يربح.

من أعطى، ومن أُعطي، الكل في حُبّ الحسين كريم، والكل في بركته رابح.

وكم من غريبٍ جاءنا، مترددًا، حذرًا، ظانًا أننا قومٌ غير ما يُقال، فما إن يذوق من ”بركتنا“ ومن ”محموصنا“، حتى يعود مُحبًّا، مبهورًا، مردّدًا:

”ما هذا؟ أهذه مأدبة بشر.. أم وليمةُ أهل السماء؟!“

فقلنا له:

هذه هي القطيف حين يُعلّق الحسين رايته على بيوتنا.. ويطهو الحبُّ حساءَه من قلوبنا.

ولا يزال الطعم في فمك، لكن البركة سكنت قلبك.

فيا من تقرأ، وتسمع، وتشارك:

لا تُقلّل من طعامٍ صغير، أو شربة ماء، أو بسمةٍ في مجلس حسين،

فلربما كنتَ أنت ”البركة“ التي يبحث عنها أحدهم، ولا يدري أنها تبتسم في وجهك.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
حسين مهدي
[ القديح ]: 6 / 7 / 2025م - 8:03 م
صدق مرات نسمع ناس ينتقدون البذخ بس المقال هنا يوضح إن المسألة مو تبذير إنما تعبير عن هوية جمعية
2
بتول عباس
6 / 7 / 2025م - 9:55 م
فلربما كنت أنت البركة ستاذ عماد
3
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 7 / 7 / 2025م - 11:17 ص
ما نقوم به مصداق للآية المباركة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ }، ومنا لا شك فيه أنتا آمنا بربنا منذ أن وصلنا رسول النبي محمد صلى الله عليه وآله.
كم أنت رائع ومبدع.