هندسة التفكير وجودة الحياة
نحن لا نعيش فقط بما نأكل أو نرتدي أو نملك، بل بما نُفكر، ونقول، ونغرس في عقول الآخرين من تصورات. في كل لحظة، نحن نُنتج أفكارًا، بعضها يُنير، وبعضها يُطفئ. بعضها يُقوّي عزائم، وبعضها يحوّل الحياة إلى ساحة جلدٍ ولومٍ دائم. في مجتمع يتطلع إلى جودة الحياة كما نصّت عليها رؤية المملكة 2030، يصبح من الضروري أن نعيد التفكير في جودة أفكارنا، ومدى تأثيرها فينا ومن حولنا.
ليس كل ما يُقال ”صوابًا“ يصلح أن يُقال، وليس كل نقد يُقصد به الإصلاح يُثمر أثرًا طيبًا. النقد البنّاء يراعي التوقيت، والنية، والأسلوب. أما النقد الهدّام، فهو يسلط الضوء على العيوب لا ليُصلحها، بل ليُحرج أو يُقصي أو يُثبّط. الفرق بين الاثنين يكمن في النية أولًا، ثم في الأثر الذي يخلّفه. النقد البنّاء يحرّك الإرادة نحو التغيير، بينما الهدّام يكسر الدافع من الجذور.
الكلمة لا تمرّ مرورًا عابرًا في النفس البشرية. إنها تترك أثرًا، قد يكون محفزًا أو جارحًا، شافيًا أو سامًّا. في الأسرة، الكلمة التي تُقال للطفل، أو بين الزوجين، قد تصنع بيئةً خصبة للنمو، أو حقل ألغام من المشاعر السلبية. وفي بيئة العمل، زميلٌ يُحسن الحديث يشحن المكان بالطاقة، وآخر لا يرى إلا التقصير يُطفئ كل شغف. جودة الحياة تبدأ من جودة الخطاب، سواء كان داخليًا «مع النفس» أو خارجيًا «مع الآخرين».
الأسرة هي نقطة الانطلاق. حين يتعلم الأبوان كيف يقدّمان النصح دون تسفيه، وكيف يُربّيان على الوعي لا على الخوف، وكيف ينقدان بضمير لا بغضب، تنشأ أجيال تعي ذاتها، وتحترم الآخرين، وتبني المجتمعات من الداخل. الأسرة الواعية تُدرّب أبناءها على النقد الذاتي المتّزن، وعلى تبنّي أفكار تزرع المبادرة لا الاتكالية، وتحفّز التقدّم لا الانكفاء.
في رؤية 2030، لم يكن التركيز فقط على تطوير البنية التحتية، بل على بناء الإنسان. وما من بناء حقيقي دون أن نؤطر طريقتنا في التفكير، ونُفلتر ما نقوله لأنفسنا ولغيرنا، ونعتمد عقلية المبتكر لا عقلية المُحبط. المبتكر ينظر إلى الخطأ كفرصة، والنقد كأداة تطوير، والاختلاف كوقود للحلول.
جودة الحياة ليست شأنًا حكوميًا فقط، بل مسؤولية تتغلغل في كل فكرة، وكل تعبير، وكل سلوك. حين نُحسن اختيار أفكارنا، ونضبط أقوالنا، ونعيد توجيه نقدنا ليكون جسرًا لا خندقًا، نكون قد أسهمنا في تحقيق رؤية سامية، تنشد إنسانًا أكثر وعيًا، وأسرة أكثر استقرارًا، ووطنًا أكثر ازدهارًا.