سبق زمانه
من عبارات المدح لرجال الفكر والابداع عبارة «سبق عصره» وحين نتصور سباقا بين الزمن وشخص ما، يكون تصورنا ذاتيا، منفصلا عن الواقع، فليس هناك من يسبق عصره، أي واقعه، بل هناك من يفهم واقعه أكثر من غيره، وهنا يكون التسابق والتفاضل في فهم الواقع لا في تجاوزه. إن من يفهم واقعه حين يكون مبدعا إما أن يشعل شمعة لزيادة ضوء هذا الواقع، وهذ ما نسميه الإضافة، وإما أن يغير جذور المعرفة التي هو عليها.
في مقال للباحث القدير الأستاذ زكي الميلاد بعنوان «عن الفيلسوف وإعادة بناء المعرفة في 10/2/25 م جريدة الوطن، حيث أوضح ما يميز الفيلسوف عن غيره»، فالفيلسوف هو ذلك الذي «يعيد بناء المعرفة في عصره» ضاربا الأمثلة على ذلك منذ فجر الفلسفة اليونانية. وهنا نطرح السؤال: كيف أعاد هذا الفيلسوف بناء المعرفة؟ هل اخترق زمنه واستوحى من زمن آخر دعائم بنائه للمعرفة؟ كلا، لقد أدرك أن زمنه يسير على أسس خاطئة في نظره، فقام بتصحيح هذا الخطأ.
من هنا تتفرع المعرفة: فهناك من ينظر إلى الواقع من ناحية ضرورة تغييره، وآخر من ناحية إبقائه على ما هو عليه. ومن هنا نشأ وينشأ الصراع الاجتماعي الأبدي. وحتى من ينظر من ناحية التغيير يختلف باختلاف الأفراد العائد لاختلاف الثقافات والبيئات والعصور، وإلى توهج الشعور الإنساني، أو خفوته.
كل قراءة للواقع تبقى قراءة ذاتية؛ فحين ينظر فرد ما إلى الواقع لا يبقى الواقع كما هو في ذهنه، بل يتلوّن بلون عمق وسطحية رؤيته، ويتلون بالخيال الذي يضفيه على واقعه، وهل هذا الخيال ممكن التحقيق، أو أنه أسطوري، ويصطبغ بلون المصلحة التي يأمل الفرد الحصول عليها، ولا يسلم من هذا غير الفلاسفة والمصلحين الذين يتمتعون بنسيان ذواتهم، وبحبهم للمعرفة الخالصة، ويأنسون بالسهر لنيلها.
إن فهم الواقع، بصورة كاملة، يتوقف كذلك على فهم التراث. وفهم التراث يختلف من فئة اجتماعية إلى أخرى؛ لأن كل فئة متعلقة بجزء من التراث يختلف، وأحيانا يتناقض، مع الفئات الأخرى؛ ولذا نحن نفهم التراث كما نريد، لا كما هو، فتتلون رؤيتنا للماضي برؤيتنا للحاضر الآن، وهذا لا ينسجم مع الموضوعية المفترض سعينا إليها.