البحث عن طريق ثالث: الموازنة بين العلم والحياة
في خضم التقدم العلمي والتكنولوجي، تتكرر الأسئلة الوجودية حول معنى الحياة وقيمتها، وحول ما إذا كان سعي الإنسان الحثيث وراء المعرفة والابتكار قد تحول إلى عبودية حديثة تُفرّط في جوهر الإنسان نفسه. فإذا كان الإنسان يولد ويكبر ويموت، وهو يسلم مشعل السعي العلمي والتكنولوجي جيلاً بعد جيل، دون أن يكون له الوقت الكافي للاستمتاع بالحياة، فهل هذا عدل؟ أم أننا أمام مأساة إنسانية مقنعة بقناع المجد والتطور؟
إن الحياة الإنسانية تمتاز بوجهين متكاملين: الأول هو الإنجاز، حيث يسعى الإنسان إلى تجاوز حدوده الطبيعية بالعلم والعمل، والثاني هو الاستمتاع، حيث يعيش لحظات وجوده بعمق وإدراك. غير أن سيادة النزعة التكنولوجية جعلت الوجه الأول طاغياً إلى حد الإقصاء، فأصبح الإنسان أشبه بترس في آلة لا تتوقف، يُستهلك عمره في اكتساب المعرفة وتطوير الأدوات التي تُستخدم لاحقًا لمزيد من الإنتاج والاستهلاك، وكأن غاية الحياة لم تعد الحياة نفسها، بل مجرد التحضير لحياة لاحقة لا تأتي أبدًا.
هذا يطرح إشكالية كبرى: هل وُجد الإنسان ليكون مجرد وسيلة في مشروع علمي يمتد عبر الأجيال؟ أم أن له الحق في أن يكون غاية في حد ذاته؟ وإذا كنا نُراكم المعرفة دون أن نجد الوقت لتذوق ثمارها، فأي معنى يبقى للحياة خارج إطار الإنجاز العلمي؟
منذ عصر النهضة، بدأ العقل البشري يقدّس العلم بوصفه وسيلة لتحرير الإنسان من الجهل والخرافة، غير أن هذا التحرر قاد إلى نوع جديد من العبودية: العبودية للمعرفة ذاتها. فالعلم لا يعرف الاكتمال، وهو في حالة تمدد دائم، ما يعني أن الإنسان أصبح مطالبًا باستمرار بملاحقته كي لا يتخلف. وهكذا، بدل أن يكون العلم خادمًا للحياة، تحول إلى سيدٍ يُطالب بالتضحية الدائمة من أجله.
والأسوأ أن هذه الدورة لا تتوقف: فالأجيال الجديدة ترث إرثًا علميًا متضخمًا، وتجد نفسها مضطرة للانخراط في السباق المحموم ذاته. وبما أن العلم لا يتيح إمكانية التوقف، فإن السؤال الفلسفي الذي يطرح نفسه هو: هل يستحق هذا السباق أن يُفني الإنسان حياته لأجله؟ أم أن هناك حدًا يجب أن يُوضع، بحيث يُعاد التوازن بين السعي نحو المعرفة والحق في العيش بسلام؟
لقد أصبح الإنسان المعاصر أشبه بشخص يُعد العدة لحياة أفضل لكنه لا يصلها أبدًا. فهو يُضحي براحته وسعادته كي يحصل على علم أكثر، ثم يُضحي بوقته وصحته كي يُطبق هذا العلم في عمله، ثم يمضي وقته يفكر في المستقبل، فلا يبقى لديه شيء للحاضر.
وهنا يتبادر إلى الذهن مفهوم الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حول ”الانشغال“ «Busy-ness»، حيث يرى أن الإنسان المعاصر منشغلٌ دائمًا بشيء ما، لدرجة أنه ينسى أن يعيش. فهل يمكن أن يكون كل هذا الجهد العلمي والتقني مجرد وسيلة لإلهاء الإنسان عن مواجهة سؤال الوجود الحقيقي؟
إن التطرف في أي اتجاه يؤدي إلى اختلال. فلا الإفراط في تقديس العلم والعمل يحقق السعادة، ولا الانغماس في الترفيه والراحة يصنع الحضارات. المطلوب إذن هو تحقيق توازن بين السعي نحو المعرفة والاستمتاع بالحياة، بحيث لا يصبح الإنسان مجرد ناقل للعلم من جيل إلى جيل، بل كائناً واعيًا لحياته، يستفيد من المعرفة دون أن يصبح عبدًا لها.
ربما نحتاج إلى إعادة تعريف النجاح، بحيث لا يكون مقتصرًا على الإنجاز العلمي أو التكنولوجي فقط، بل يشمل أيضًا القدرة على عيش الحياة بوعي وامتلاء. فالتقدم الحقيقي ليس في تطوير الأدوات فحسب، بل في تطوير فلسفة حياة متوازنة، تعيد للإنسان حقه في أن يكون أكثر من مجرد حلقة في سلسلة العلم والتكنولوجيا.
إذا كان العلم هو المفتاح لفهم العالم، فإن الحياة هي المساحة التي يجب أن يُستخدم فيها هذا الفهم ليجلب السعادة والراحة، لا أن يتحول إلى سجن من الواجبات والضغوط. فلا جدوى من علم يُرهق الإنسان بدل أن يحرره، ولا معنى لتكنولوجيا تُسرّع الحياة دون أن تمنحها عمقًا.
الإنسان لم يُخلق ليكون أداة في معمل التطور، بل ليكون كائناً واعيًا، يستمتع بوجوده بقدر ما يسهم في تحسينه. وإذا لم نضع هذه الفكرة في الاعتبار، فقد نجد أنفسنا في عالم مليء بالمعرفة، لكنه فارغ من الحياة