آخر تحديث: 1 / 4 / 2025م - 1:17 ص

الصورة الفرنسية.. والاحتجاجات العربية

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

بعد اندلاع الحركات الاحتجاجية في أواخر عام 2010، في تونس وليبيا ومصر وسوريا، ومناطق أخرى من الوطن العربي، شبه كثيرون ما جرى من تداعيات، إثر تلك الأحداث بالثورة الفرنسية. وجرت مقاربة بين بعض قادتها، بالخطيب المفوه للثورة الفرنسية روبوسبير، المعبر في حينه عن موقف اليسار الفرنسي.

ومرة أخرى، أعيد الحديث، بذات التوصيف، بعد مغادرة الرئيس السوري بشار الأسد في رحلته النهائية إلى موسكو. فهل هناك فعلاً تشابه بين ما جرى بنهاية عام 2010 و 2024، والثورة الفرنسية.

نهتم هنا بتوصيف ما جرى، وقراءته دون أخذ موقف منه، ومن غير الدخول في تفاصيل مكثفة، لتلك الأحداث، واضعين ذلك في إطار التحولات الاجتماعية والسياسية، التي نتجت عن الثورة الصناعية الأولى، وتأثيراتها على القارة الأوروبية بأسرها.

أخذت الثورة الصناعية الأولى مكانها، بعد دخول الميكانيكا، قوة محركة في صناعة النسيج، عام 1760. وبذلك أصبحت بريطانيا قوة صناعية واقتصادية عظمى، استبدلت السفن الشراعية بسفن تعمل بالمحرك البخاري، لنقل المنتجات القطنية للخارج. ولتسهيل ذلك تمت صناعة السكك الحديدية، التي تعمل بالفحم الحجري.

لم يحدث هذا التطور من فراغ، فقد سبقته مراحل تبشيرية دينية وفكرية واسعة، أدت لتحولات في المعتقدات الدينية، قادها القس مارتن لوثر في ألمانيا، وجون كالفن في فرنسا، نتج عنها بروز المذهب البروتستانتي، الذي وصف من قبل ماكس فيبر بالعقل القانوني. وقد هيأت تلك الأحداث لقيام ثورة المتطهرين في إنجلترا، بقيادة أوليفر كرومويل عام 1651.

جرى تأثير الثورة الصناعية في القارة الأوروبية بأقصى سرعة. واتضح أن فرنسا من أكثر المتأثرين بتلك الثورة. وتعهدت فرنسا بإنتاج الأفكار، التي بشرت بالتحولات السياسية والاجتماعية المنتظرة.

اندلعت الثورة الفرنسية في آذار/ مارس 1789، وتواصلت الاضطرابات حتى 1799، إلى أن استولى نابليون بونابرت على السلطة، في ذلك العام. ومع بونابرت، تواصلت الثورة بأشكال مختلفة، الأبرز بينها الثورتان الإدارية والقضائية، اللتان تركتا آثارهما على إدارة المكاتب الحكومية في العالم بأسره.

اندلاع الثورة الفرنسية 1789 حدث مهم وكبير في التاريخ الإنساني، شكل نقطة البداية لنشوء النظام التعاقدي، حيث الناس يولدون أحراراً، متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات. وقد عبّر قيام هذه الثورة عن هزيمة ماحقة للإقطاع، وبروز النظام البورجوازي، الذي باتت مبادئه تشكل عناصر مهمة لمعظم التحولات الاجتماعية التي أخذت مكانها في العالم.

ولم يكن بعيداً عن القراءة الموضوعية أن تصنف ثيدا سكوكبل، في كتابها عن الثورات الاجتماعية، تلك الثورة كواحدة من ثلاث ثورات كبرى في التاريخ الإنساني، بالإضافة إلى الثورتين الروسية والصينية. الأولى مثلت مصالح البورجوازية، والثانية مصالح العمال، والأخيرة مصالح الفلاحين.

وسواء اتفقنا مع هذه الرؤية للثورات الإنسانية الكبرى أم لم نتفق، فإن ذلك لا ينفي أن من نفذوها طرحوا تلك المبادئ، وصاغوا برامجهم على ضوئها. وقد تركت تلك الثورات تأثيراتها على مصير البشرية، حتى يومنا هذا.

فالثورة الفرنسية لم تكن مجرد تحول سياسي أو اجتماعي، بل كانت كما أشرنا ثورة في الإدارة، تركت بصماتها على البناء البيروقراطي لأجهزة السلطة، في جميع الدول. ولم يكن الوطن العربي استثناء، في ذلك. يكفي القول إن أول مطبعة أنشئت في مصر هي من نتائج الغزو الفرنسي لأرض الكنانة. وبالمثل، نقلت مصر التجربة الفرنسية في إدارة المكاتب الحكومية.

والأهم أن الثورات الأوروبية الكبرى لم تحدث من فراغ، بل صنعتها أفكار سبقتها، وتطورت بعد حدوثها، وأنتجها مفكرون أوروبيون، مؤدية لصياغة نظريات سياسية، لا تزال تدرس في الجامعات والمعاهد.

فقد أصدر العالم الإنجليزي كتابه «لوياثان» عام 1651، الذي كان ضمن أساسيات الفلسفة السياسية الغربية في حينه، من منظور العقد الاجتماعي. وبعد قرابة أربعة عقود من الزمن، عام 1690 صدر للكاتب الإنجليزي، جان لوك كتاب «اتفاقيتان»، دعا فيه إلى مشاركة الجمهور في صنع القرار السياسي، كما صدر كتاب الفيلسوف الفرنسي، شارل مونتسكيو، عام 1748 «روح القانون»، الذي طالب بالفصل بين السلطات، وألهم كتابه صناع القرار في الدول الأوروبية، والولايات المتحدة في صياغة دساتير بلدانهم. وقريباً من التاريخ ذاته، أصدر جان جاك روسو، عام 1762، كتابه «العقد الاجتماعي»، الذي يعتبر حجر الزاوية بالفكر السياسي والاجتماعي الحديث.

وكان الأديبان فولتير وفيكتور هيجو، قد واصلا تدعيم ثورات عصرهما، بإبداعاتهما في مجال الأدب، وتحريضهما على الإصلاح السياسي، الأول من خلال الشعر والمسرح، والآخر من خلال روايتيه الشهيرتين، «البؤساء» و«أحدب نوتردام»، وعدد آخر من الروايات، التي صنفت ضمن أفضل ما أنتجه الأدب الرومانسي.

في الوطن العربي، بدأ عصر التنوير غضاً، منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأسهم في الانفتاح على الفكر الإنساني العالمي، وتم ترجمة أهم الكتب السياسية والأدبية العالمية، بما في ذلك الأساطير الإغريقية، وقد هيأت تلك المقدمات لمنازلة الاستبداد العثماني. لكن اصطدام حركة التنوير بنتائج الحرب العالمية الأولى، وبشكل خاص اتفاقية سايكس - بيكو لجم مسيرة حركة التنوير. ولا شك أن ضعف التشكيلات الاجتماعية، كان له دور كبير في تلك النتائج.

فهل يصح بعد هذه القراءة مقاربة ظروف ما جرى من حركات احتجاجية في الوطن العربي، بالثورات الأوروبية، وبشكل خاص الثورة الفرنسية، والتطورات الاجتماعية التي مهدت لها؟!