آخر تحديث: 31 / 3 / 2025م - 10:33 م

هل تختلف مع أبويك؟

هاشم الصاخن *

يبدو أنَ الفجوة بين الأجيال تتسع أكثر من أي وقت مضى؛ إذ لم يعد الأبناء والبنات يشبهون آباءهم وأمهَّاتهم في نظرتهم للحياة، سواء في القضايا العامَّة أو التفاصيل اليوميَّة؛ فالعصر الذي نعيشه اليوم مختلف تمامًا عن ذلك الذي نشأ فيه آباؤنا، ممَّا يجعل التَّساؤل ضروريًّا: هل هذا الاختلاف طبيعي كما حدث عبر الأجيال السابقة؟

أم أنَّه نتيجة لتحولات سريعة فرضت رؤية جديدة قد لا تتماشى مع قيم الماضي؟

أصبحت هذه الظاهرة تنتشر بشكلٍ شبه كامل، وانتقلت من مجرَّد ملاحظة إلى واقع نعيشه يوميًّا. فلا يكاد يمرُّ يوم من دون أن نختلف مع أبنائنا في أصغر الأمور، ناهيك عن أكبرها. بدءًا من مواعيد النوم التي باتت أكثر تأخرًا، مرورًا بعادات الأكل التي تغيَّرت، وصولًا إلى الدراسة التي أصبحت تعتمد على الوسائل الرقميَّة أكثر من الأساليب التقليديَّة، وحتَّى في الملبس أصبح الأبناء والبنات يختارون أساليب تعكس شخصيَّاتهم المستقلَّة بعيدًا عن القيم التي اعتاد عليها آباؤهم، كذلك تغيَّرت طريقة التَّفاعل الاجتماعي؛ إذ يفضِّل الجيل الجديد التواصل عبر الأجهزة الذكيَّة بدلًا من اللقاءات العائليَّة أو الزيارات الاجتماعيَّة.

لم يتوقف الأمر عند العادات اليوميَّة، بل امتدَّ إلى القراءة والتَّعلم؛ فقد ظهر لنا جيل يقرأ الروايات الأجنبيَّة ويتحدَّث عنها وكأنَّه عاش أحداثها لحظة بلحظة، ويستدلُّ بها في كلِّ شاردة وواردة، حتَّى في طريقة نومه؛ هل ينام على جانبه الأيمن أم الأيسر! والمفارقة أنَّ هذه الروايات لم يسمع بها الآباء والأمهات من قبل، لدرجة أنَّ الابن لو نطق اسم مؤلفها خطأ لما انتبه أحد.

إلى جانب ذلك، نجد أنَّ مفهوم النَّجاح لم يعد موحدًا بين الجيلين؛ فالآباء يرون في الاستقرار الوظيفي والوظائف التقليديَّة طريقًا واضحًا للحياة، بينما يميل الأبناء إلى البحث عن شغفهم في مجالات جديدة مثل ريادة الأعمال، والعمل الحر، وصناعة المحتوى الرَّقمي، ولم يعد النجاح في نظر الجيل الجديد يُقاس بمدى التدرج الوظيفي، بل بمدى تحقيق الذات والاستقلاليَّة الماليَّة لدى البعض.

هل ما زالت خبرة الكبار مهمة؟

ومع هذا التَّغيير الجذري في المفاهيم، بدأ بعض الأبناء والبنات ينظرون إلى آبائهم على أنَّهم أقل وعيًا بالحياة العصريَّة، وكأن تجاربهم لم تعد تحمل أي قيمة، ولم يعد الرأي الذي يطرحه الوالدان يُناقش بموضوعيَّة، بل أصبح مرفوضًا مباشرة لمجرَّد أنَّه صادر عن جيل أقدم؛ فالكثير منهم يؤمنون بأنَّ أي فكرة أو مقترح من الوالدين كان من الممكن أن يكون مناسبًا قبل 30 عامًا، لكنه اليوم لا يستحق حتَّى النظر فيه. والمفارقة أنَّ بعض هذه الآراء قد تكون صحيحة ومنطقيَّة، لكن رفضها لا يأتي بناءً على مضمونها، بل بناءً على قائلها، وكأن رأي الأب أو الأم فقد صلاحيته لمجرَّد أنَّه ينتمي إلى زمن مختلف.

لكن، لا نقول إن ما عاشه الآباء والأمهات سابقًا هو الصَّواب المطلق بنسبة 100%، ولا ندَّعي أن ما يعيشه هذا الجيل اليوم هو الخطأ المطلق؛ فالتغيير سنَّة الحياة؛ لكن الحكمة هي في الاستفادة من هذا التغيير دون فقدان الأساسيَّات والقيم.

وهنا، يبرز السؤال الأهم: هل جرَّب الجيل الجديد أن يدمج الماضي بالحاضر؟

هل جرّب أن يجد في الموروث الديني والاجتماعي ما هو أكثر قيمة وفائدة من الروايات الأجنبية التي بات يتنفس بها؟

وهل حاول أن يواكب التَّطور التقني الحاصل دون أن يتخلَّى عن التفكير العميق والحكمة التي يمتلكها آباؤه، ليصنع قالبًا جديدًا يناسبه ويناسب فكر من حوله؟

العلاقة بين الأجيال.. حوار أم صدام؟

أيُّها الأبناء والبنات، عندما ترفضون أيَّ رأي أو مقترح من والديكم، سواء كان أمرًا مصيريًّا أو مجرَّد تفصيل بسيط، لمجرد أنه لا يناسب طريقة تفكيركم الحديثة، فأنتم تضعون أوَّل لبنة في جدار الانفصال بينكم وبينهم.

قد يبدأ الأمر فكريًّا وعاطفيًّا، لكنه مع الوقت قد يمتد ليصبح قطيعة حقيقية؛ لذا اسمعوا لهم، وخذوا من تجاربهم، فقد يكون لديهم من الحكمة والخبرة ما لم تدركوه بعد، ولا تجعلوا أفكارهم تبدو وكأنَّها مجرَّد وهم؛ فقط لأنَّها تعود إلى زمن مختلف، فقد يكون رأيهم هو الصواب، وحين تكتشفون ذلك ربما يكون الوقت قد فات للتراجع أو الاعتراف بالخطأ.

ولا يعني هذا أن عليكم التَّخلي عن قناعاتكم أو التنازل عن شخصيَّاتكم، بل أن تجعلوا من الحوار وسيلة للتفاهم بدلًا من أن يكون ساحة للصراع؛ فالحياة لا تقوم على القطيعة بين الأجيال، بل على تكامل الخبرات. وما ترونه اليوم حديثًا ومتطورًا، سيأتي يوم يراه أبناؤكم قديمًا وقد عفا عليه الزمن، وحينها، ستدركون كيف يشعر آباؤكم اليوم، وستعرفون أنَّ التغيير لا يعني بالضرورة الرفض، بل قد يكون فرصة للجمع بين خبرة الماضي وحيوية الحاضر.

كيف نصل إلى نقطة التفاهم؟

إنَّ الاختلاف بين الأجيال ليس مشكلة في حدِّ ذاته، بل هو ظاهرة طبيعيَّة كانت وستظل موجودة، لكن المشكلة الحقيقيَّة تكمن في غياب الحوار الفعّال بين الطرفين؛ فالآباء بحاجة إلى تفهم أنَّ الزمن تغيّر، وأن الأبناء يعيشون في عالم مختلف مليء بالتَّحديات والتطورات المتسارعة، ويتطلَّب هذا العصر أساليب جديدة في التفكير واتخاذ القرار، وفي المقابل، على الأبناء إدراك أن والديهم لا يتحدَّثون من فراغ، بل من سنوات طويلة من التجارب والخبرات التي لا يمكن اختزالها أو تجاهلها.

إنَّ استمرار كل طرف في التمسك برأيه ورفض الاستماع للآخر، سيحقق اتساع الفجوة أكثر، مما يؤدِّي إلى مزيد من التباعد بين الأجيال، والحل لا يكمن في أن يفرض جيل على الآخر قناعاته، وإنما في أن يتمسك كل جيل بمكامن قوته، ويتعلم من الآخر ما يمكن أن يساعده على تطوير حياته وفهم الواقع بصورة أشمل.

اليوم، قد يرى الأبناء أنهم يمتلكون الفكر الحديث، لكن الزمن يدور، وسيأتي يوم يواجهون فيه جيلًا جديدًا بأفكار مختلفة، فهل سيتقبلون هذا التغيير أم سيرفضونه كما فعلوا مع آبائهم؟

المسألة ليست صراعًا بين الصواب والخطأ، بل في إيجاد أرضيَّة مشتركة تضمن التفاهم بين الأجيال، بدلًا من دوَّامة الصدام التي لا رابح فيها.

سيهات