آخر تحديث: 1 / 4 / 2025م - 8:35 م

الغروب المشرق: علي بن أبي طالب (ع)

”الغروب المشرق“ كان عنوان الفصل الأخير من كتاب ”الإمام علي نبراس ومتراس“ لكاتب هو إحدى القامات من أصحاب القلوب الزلال الصافية والطينة الطاهرة المُحبّة لأهل البيت ، وأحد أبرز أعلام الأدب والفكر، وهو الكاتب القدير والأديب المبدع سليمان كتاني، الذي يعتبر كتابه ”الإمام علي نبراس ومتراس“ في طليعة الكتب القيمة التي كتبت حول الإمام علي .

خاطب الكاتب سليمان الإمام علي في هذا الفصل الأخير من الكتاب قائلا:

" إلى أين يستطيع أن يطوف بك الفكر، وقد تخليت عن كل القيود التي كانت تشد بك من تلك المطاوف التي كانت تهتز تحت مقارع قبضتيك؟

وكيف أصبحت تنظر إليك الدنيا بعد أن نبذت إليها كل ما كان لك منها، كما ينبذ الليل أمام الفجر آخر ذيل من ذيول عتماته.

وكيف بدأت تنظر إليك ساحات الجهاد، بعد أن تركت لها السيف الصقيل والرمح الأسيل؟

لعمري! إن التاسع عشر من رمضان لم يكن اليوم الأوحد الذي فيه رزمت حقائبك، وشددت رحلك للسفر الطويل.

فلقد تهيأت لاعتلاء المطية البهية منذ اليوم الأول الذي به تكحلت عيناك بذلك الفيض الذي من غار حراء، وفقت عليك غموره..

ومنذ ذلك اليوم والدنيا تطأطئ رأسها بين يديك، وتلقي بكل جبروتها تحت نعليك.

ومنذ تلك اللحظة، أصبحت خطواتك تتجه نحو الأقاصي، لا تستوقفها الأعاصير، ولا تلهيها رغوات الزبد؟

الدنيا التي قابلتها بخشونة كفك، وصدقت عنها بشمم أنفك ورميت إليها بطي كشحك.. هي اليوم التي ترنو إليك، كأنها أدركت أنك أنعم وشي لبرودها، وأنك أطرى سحابة مرت تلطف النشفة في أجوائها.

وأنك كنت أعقل معدل في صماماتها.. تارة يطبق عليها الشح فتستند به على اختناق، وطورا يغور بها البطر فتحبل به على انفتاق.

وأنت كنت أجرأ من مد إلى خدها المبرج يدا، فهتك عنه الإزار، ودخل خدرها المنمق فمزق عنه الستار.. فإذا بالوجه السافر تفضح الشمس مساحته، وبالخدر المدلل المغطى بالسجف الوثيرة يتعرى عن كل مفاتنه الوبيئة.

وهكذا أخضعت الدمية الكبيرة وسلختها من أغلفة الأوهام، لتلبسها الثوب البسيط المعفف، وسحقت عن أجفافها سقم المراود، وعرضتها للنور، تستجمع منه مفاتن الكحل؟

وإن الدنيا هذه إذ تخسر تحت عينيك بريقها الوابق، تكتسب بين راحتيك وهجها الدافق.. فإذا هي دروب آمنة الجوانب، يتمشى عليها العابرون على اتزان.. يحدوهم الشوق العفيف، والأمل اللطيف، والمسعى النظيف.. في سبيل الوصول إلى غفوة قريرة، لم تنغصها لا دلجة الطمع ولا لمز الجشع، ولم تهتكها تخاريب الفجور أو تجاويف الغرور، ولم تؤرقها دبابيس المظالم، وليس الفقر فيها بمنأى عن الفضائل وليس الغنى منها بمعنى عن الشمائل.

وهكذا صنت حدود الدنيا إذ كثفت حدودها وأسبغت عليها الكنوز من حيث بعثرت كنوزها.

لذلك، فإنها أصبحت ترجع إليك في كل سانحة تشعر فيها بأنه قد غص بها الطريق، وفي دستورك كان لها ذلك المرجع الوثيق، ودستورك كان ذلك الإلمام الفسيح بكل أمور الحياة ومشاكلها ولواعجها، فلم تعالج شأنا من شؤونها إلا سبرت منه الأغوار وسلطت عليه الأنوار.

أخذت الرسالة، فإذا هي من نور ربك الكبير هداية ما فاتك منها قبس جمعت إليها حجاك، فشع بها منك الحجا،.. وضممتها إلى قواك.. فإذا صدرك منها كظهر المجن فرحت تغرف وتفرغ، دون أن يوهيك الغرف أو يوهنك التوزيع.. كأنك أليم، ما ملت من مدك الشطآن.

ولم تأخذ كبيرة إلا عالجتها بكبر، ولن تتناول صغيرة إلا أعرتها كل الفكر.. فكأنك كنت على البعد وعلى القرب كالنور، جواد البصيرة جواب النظر، وتهافت حول حياضك الفضائل مترابطة كما تترابط ببعضها البعض خطوط القوافل، فإذا بها مشدودة الرصف منسقة القوالب، موزونة الإيقاع، سلسلة المدارج؟

فكنت الجائد الجواد من حيث كنت الزاهد الزهاد..

وعجنت الدنيا بماء الزهر وخبزتها، فإذا موائد الجود تتفتح على حقيقة السخاء.. حتى إذا تناولت الرغيف المقدد تأكله بحبة ملح، كانت لك فيه كل العوافي.. ورغيفك كان كفافك، لأنه كان من الزهد عجينه.. ولن تحسد غيرك على رغيف، لأنه من جود زهدك كان طينه.

وزهدت بالدنيا، لأنك لم تر لها ظلا مقيماً، ولا عزاً مستديماً.

ورأيت أن دروبها ليست غير معابر، ورأيت ان الإنسان فيها حثيثا حثيثا إلى الموت سائر، وأنه إلى أحضان ربه صائر.

ورأيت أن الفضائل خير حلية تجمع الإنسان في دنياه، يسلكها بتقواه ويتركها بنجواه.. راحة في الحياة وبلغة للممات.

ورأيت أن المثالب بنت المتاعب، تفسد المطالب تحتضن الأحقاد وتقض المضاجع.. ولن يكون للإنسان فيها حقيقة مأرب، بل هل ملجأ العقل الواهي ومسلك الطامع المغرور، والجائع النهم.. هدف صغير، وشأو حقير، لن تبني حقيقة الوجود، بل بقى لها مصدرا قلق في سباق أليم، ينهكه إنسانا، يعي التزاحم، ويدهمه التحايل والتراوغ.

فمددت باعك الطولي تفرض العفة في المسلك، والصدق في المنطق، والصراحة في الرأي والحق في الفصل، والعدل في التنفيذ.. فإذا بك تمد الخوان تغنيه الفضائل، وتزينه الشمائل، وتطيبه التقوى، ويشهيه الإيمان.

هو العجين المطهر، لم تمتد إليه يد البغي بأصبع.. وكان المأكل منه نعم المأكل.. فيه الغذاء وفيه العزاء فيه الرضوخ وفيه الرضا، فيه الحب وفيه السماح وفيه السعي على إباء، وفيه الفكر على نبالة، وفيه يقظة الوجدان، وفيه روعة الإنسان.

هذا ما تركته للدنيا.. هذا ما تركته للدنيا من حقيقة الدنيا.

فلا عجب تجوع الدنيا من صوانيك كلما غصت بموائدها، أو تتعطش إلى مساقيك كلما غرقت في مناهلها.

والدنيا إنما سغبها في تخمتها، وإنما صداها بفيض غمرها.

أما إن أطباقك كيف لا تتخم ومشاريك كيف لا تغرق، فلأنك الذواق إذ قدمت فن المأكل وفن المشرب.

وهكذا لا تزال الدنيا بأجيالها تعرف الطيب من أفاويهك، يا أيها الوجه الكريم من سنا ربك." انتهى.

هذا الكتاب ”الإمام علي نبراس ومتراس“ كنز قيم من كنوز المعرفة حول شخصية الإمام علي ، وهو من أجمل الكتب الأدبية التي كُتِبَتْ عنه ، وقد حظي هذا الكتاب باهتمام العلماء والباحثين، وأشادوا به إشادة عالية. يعتبر هذا الكتاب من الكتابات المتميزة بحق إمام الإنسانية الخالد أمير المؤمنين .

في عام 1966 أطلقت مدينة النجف الأشرف مسابقة التأليف في الإمام علي بن أبي طالب، وقد كان صاحب هذه الفكرة سماحة السيد جواد شبر الخطيب الحسيني، وكان الجماعة العلماء دور في تنظيم هذه المسابقة من خلال تشكيل لجنة تحكيم تضم: سماحة آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين قدس سره، وسماحة آية الله السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره، وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد موسى بحر العلوم بطلب السيد جواد شبر أمين سر اللجنة وسكرتيرها، وقد وجه نداء إلى الكتاب المحققين والمثقفين في العالم العربي والإسلامي للتنافس في الكتابة عن الإمام علي .

كان لهذه المسابقة التاريخية أصداء كبيرة في الأوساط العلمية والاجتماعية، حين ساهمت في خلق آفاق ومحاور جديدة في الكتاب والتأليف خاصة في الإمام علي والذي يعتبر شخصية عالمية بكل المعايير.

وقد حاز كتاب ”الإمام علي نبراس ومتراس“ على الجائزة الأولى لأفضل تأليف أقامته مدينة النجف الأشرف في تلك المسابقة،‎ حيث تم اختياره أفضل كتاب، ومنح الجائزة الأولى في تلك المسابقة.

يقول الكاتب سليمان كتاني في فاتحة الكتاب:

" قلَّة أولئك الرِّجال الذين هم على نسج علي بن أبي طالب ، تنهدُ بهم الحياة، موزَّعين على مفارق الأجيال، كالمصابيح، تمتصُّ حشاشاتها لتفتيها هدياً على مسالك العابرين..

وهم - على قلَّتهم - كالأعمدة، تنفرج فيما بينها فسحات الهياكل، وترسو على كواهلها أثقال المداميك، لتومضَ من فوق مشارفها قِبَبُ المنائر، وإنهم في كل ذلك كالرَّواسي تتقبَّلُ هُوجَ الأعاصير وزمجرة السُّحُب، لتعكسها من مصافيها على السفوح خيراتٌ رقيقة رفيقة عذبة المَدافق، هؤلاء هم في كل آن وزمان في دنيا الإنسان أقطابه وروَّاده.

من بين هؤلاء القلَّة يبرز وجه علي بن أبي طالب، في هالة من رسالة، وفي ظلٍّ من نبوَّة، فاضتا عليه انسجاماً واكتمالاً كما احتواهما لوناً وإطاراً، وهكذا توفَّرت السائحة لتُحلِّقَ في أكلح ليل طال دحسه على عصر من عصور الإنسان فيه الجهلُ، والظلمُ، والحيفُ، ما يضمُّ ويذلُّ رجلاً تزاحمت فيه وفرة كريمة من المواهب والمزايا لا يمكن أن يستوعبها إنسان دون أن تقذف به إلى مصافِّ العباقرة."

يقول الكاتب سليمان كتاني في فصل بعده بعنوان ”مناجاة“:

" بهذه المناجاة أحببت أن أقرع الباب في دخولي على علي بن أبي طالب، وأنا أشعر بأن الدخول عليه ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب، وإني أدرك الصعوبة في كل محاولة أقوم بها في سبيل جعل الحرف يطيع لتصوير هذا الوجه الكريم، لأن التصوير يهون عليه أن يلتقط بالأشكال والاعراض، فيحين يدق عليه أن يتقصى ما خلف الاعراض من معان وألوان.

علي بن أبي طالب هو بتلك الألوان أكثر مما هو بتلك الأعراض، وإنه عصي على الحرف بتصويره بقدر ما هو قصي عليه بمعانيه.

فهو لم يأت دنياه بمثل ما يأتيها العاديون من الناس، جماعات جماعات، يأتي الناس دنياهم يقضون فيها لبانات العيش ثم عنها بحكم المقدر يرتحلون، لا تغمرهم بعد آجالهم إلا موجة النسيان.. أما هو فلقد أتى دنياه، أتاها كأنه أتى بها.. ولما أنت عليه بقى وكأنه أتى عليها.

، فإذا اكتفى الحرف فقط بأن يصوره في الفسحة التي هو بين مهده ولحده، فإنه يكون كالآلة تأخذ مظاهر الأشياء دون بواطنها.

إن الفرق بعيد بين الباطن والظاهر... فعلي الذي ولد في مكة، وعاش سنة عقود ثم مات في الكوفة.. ليس عليا الذي تقمط الجزيرة ولا يزال يعيش في أربعة عشر قرنا دون أن يعرف خرقة الكف."

ويقول مناجيا للإمام علي :

«أصحيح يا سيّدي أنهم بدل أن يختلفوا إليك اختلفوا فيك؟! فمنهم من فقدوك وما وجدوك... ومنهم من فقدوك ثمّ وجدوك... ومنهم من وجدوك ثمّ فقدوك... لأنه لعجب عجاب!! أربعة عشر عموداً من أعمدة القرون، بساعاتها وأيامها وسنيها، ذابت كما تذوب حبّة الملح على كفّ المحيط، ولما يذبْ بعد حرف من حروف اسمك الكبير. فكيف لهؤلاء أن يفقدوك ولا يجدوك، أو يجدوك ثم يفقدوك؟! ويا لَسخرية القدر! حتى هؤلاء الذين وجدوك كيف تراهم حدّدوك؟! إن الحرف الذي انزلق عن شفتيك لا يزال منذ أربعة عشر قرناً يأبى أن يتقلّص في زمان أو مكان، لأنه يحمل عنك نور قيم الفكر واعتلاجات حقيقة الحياة...

وهي أبعد من أن يحصرها إطار... إن الحرف، منطلقاً من بين شفتيك، أبى أن ينزل في نطاق، فكيف بك أنت إذ حدّدوك بشورى تُنحّيك عن إمارة، أو بيعة تصلك بخلافة؟! وكيف تمكّنوا من أن يحشروك بين بداية ونهاية!… فإذا قماطك قميص عثمان، وإذا لك على كف ابن ملجم دثار الكفن. لو أدرك الذين فقدوك وحتى الذين وجدوك، أنّك العملاق ولو بقامة قصيرة وأن وجهك ولو من التراب هو من لون الشمس... لما وصفوك ولما صدقوا حتى اليوم أنهم فقدوك».

لذا فإنني أدعو لقراءة هذا الكتاب من كل محب للمعرفة ومحب للإمام علي ، كما أدعو للاطلاع على بقية الكنوز المعرفية التي كتبها هذا الكاتب القدير ضمن سلسلة حول أهل البيت .

سليمان كتاني كاتب مسيحي، كانت له علاقةٌ خاصةٌ بالرسول الأكرم ﷺ والأئمة الأطهار ، وكانت معظم كتبه وأهمها تناولت هذه الموضوعات، طوال سني حياته التي امتدت لـ 92 عاما، ألف فيها مؤلفات قيمة، ولا سيما حول حياة الأئمة المعصومين . فكان يغوص بعمقٍ في بحر حياتهم بأسلوب أدبي رفيع، وقد نالت كتاباته جوائز مهمة ومراتب عالية وشملت هذه المؤلفات:

محمد شاطئ وسحاب

فاطمة الزهراء وتر في غمد

الإمام الحسن الكوثر المهدور

الإمام الحسين في حلّة البرفير

الإمام زين العابدين عنقود مرصع

الإمام الباقر نجي الرسول

الإمام الصادق ضمير المعادلات

الإمام الكاظم ضو‌ء مقهور الشعاع

كان سليمان كتاني يتمنّى أن يكمل هذا المسير، والكتابة عن كل أئمة أهل‌ البيت ليكمل سلسلة مؤلفاته بهذا الشكل، ولكن القدر عاجله

نشرت مجلة ”بقية الله“ بعضاً من حديث له تكلّم فيه حول طريقته في الكتابة ومعرفته بأهل البيت واهتمامه بسيرتهم:

"بأناقةٍ في الكلمة التي تحترم القيمة الروحية للفكر كتبت، كان قصدي وما زال تجميل الحروف كي تتجمّع ثوباً لائقاً بعظمة الفكر. منذ كنت في العشرين من عمري بدأت رحلة الكتابة لمجتمع أراه عظمةً ونُبلاً في إنسانيته، وكان اهتمامي الفطري بالقضايا الإنسانية الكبيرة ورجالها أهم العوامل المساعدة على اتخاذي هذه الوسيلة للتعبير لا الجو الطبيعي الجميل الذي يحيطني كما يحلو للبعض أن يتصور». وعن أهل البيت قال: «ما كنت أعرف آل البيت قبل كتابتي عن عميدهم، عن علي أمير المؤمنين والذي ما كنت أعرفه قبل أن يطلب مني الكتابة عنه، حتى النبي الأعظم ما كنت أعرفه.

ولا أخفي أنني ما استطعت الكتابة عنهم إلا بعد أن قرأتهم ملياً في الكتب والتاريخ، وبعد القراءة أكبرت الرجال، وبعد التعرُّف أكبرت الأئمة، أكبرت العظمة في الأهداف. لم تكن لملمة أمةٍ مشرورةٍ على هذه المساحات الغبراء مسألة سهلة وقد قام بهذا محمد ﷺ وعلي . أما الغوص في عوالمهم فهو غوص في عالَمَي الصدق والبطولة."

استشاري طب أطفال وحساسية