نهاية ”أكبر وأبرز وأحدث وأكثر اتفاقية تجارة توازناً في التاريخ“!
بالأمس دخل حيز التنفيذ ما كان قد وعد به الرئيس ترمب من فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركيةً هائلة على جيرانها كندا والمكسيك وعلى الصين. هذا الأمر لا يمكن أن يكون عابراً لاعتبارين إثنين: 1. أن تجارة الولايات المتحدة مع هذه الأطراف الثلاثة تزيد عن 2 تريليون دولار، أي ما يمثل 7 بالمائة من التجارة العالمية في السلع والخدمات «للعام 2023»، فضلاً عن أن التجارة مع المكسيك وكندا تمثل 30 بالمائة من التجارة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية. والاعتبار الثاني هو أن الرسوم الجمركية التي كانت تفرضها الولايات المتحدة على الواردات من البلدين منخفضة إجمالاً، بل أن معظم السلع كانت معفية من الرسوم الجمركية وفقاً لاتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك «USMCA»، التي كان الطرف الممثل للولايات المتحدة فيها والذي وقع عليها هو الرئيس ترامب في العام 2018، وهي الاتفاقية التي حلت محل اتفاقية ”نافتا“ «NAFTA» التي كانت سارية بين البلدان الثلاثة للفترة 1994-2020، والتي أوقف العمل بها بسبب انتقادات الرئيس ترامب في الحقبة الأولى لرئاسته، والتي وصفها آنئذ «في 18 نوفمبر 2018» بأنها ”بحق انجاز خارق“ وأنها ”أكبر وأبرز وأحدث وأكثر اتفاقية تجارة توازناً في التاريخ.“
وعند التمعن ستجد أن رفع رسوم الاستيراد ستؤذي الولايات المتحدة الأمريكية اقتصادياً بلا أية مواربة؛ فالواردات من كندا والمكسيك هي شريان حياة صناعة السيارات الأمريكية، وكندا هي أهم مورد للطاقة للولايات المتحدة الأمريكية، وبالتأكيد فإن رسوم جمركية قدرها 25 بالمائة ستؤذي الزبائن عند محطات البنزين وفي المصانع بل وفي كل نواحي الحياة. أما المنتجات الزراعية فحدث ولا حرج فاعتماد الولايات المتحدة كبير على كلا البلدين لاستيفاء الحاجة من الخضراوات والحبوب والفواكه واللحوم على تنوعها. أما صناعة البناء فلها نصيب وافي، حيث أن معظم المساكن هناك هيكلها خشبي، وتبنى من خشبٍ مستورد من كندا. وبطبيعة الحال لن يقتصر التأثير على السلع بل سيشمل الخدمات على تنوعها بما في ذلك خدمات أساسية مثل - على سبيل المثال لا الحصر - خدمات تقنية المعلومات وخدمات الرعاية الصحية من ارتفاع أسعار المعدات الطبية والأدوية المصنعة في كندا والمكسيك وتأثيرها على تسعير الخدمات الصحية.
وأختم بأن هناك تداخل كبير في الأنشطة الاقتصادية فيما بين البلدان الثلاثة بما في ذلك خدمات التعهيد «outsourcing»، وسيكون من تأثيرات الرسوم الجمركية العالية أن تقطع أوصال شبكة التداخل وقد تضطر شركات تنتج في كندا أو المكسيك الانتقال إلى الولايات المتحدة، أو إلى بلد آخر لا يخضع للرسوم الجمركية المرتفعة من الولايات المتحدة، لكن ذلك سيتطلب استثمارات ضخمة ومدة زمنية قبل التمكن من الإنتاج من مواقع خارج كندا والمكسيك. وهكذا، قد يعني ذلك إعادة هيكلة و”تشبييك“ سلاسل الامداد لتتجنب هذين البلدين.
من الناحية الاقتصادية سيكون تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية بمقدار 25 بالمائة مؤذياً بالفعل - بل كارثياً - على كندا والمكسيك، إذ يعني فقدان استثمارات واستهلاك وصادرات وملايين الوظائف، ما يبرر القول أن اقتصادات الدول الثلاث الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ستتأثر سلباً نتيجة لرفع الولايات المتحدة الأمريكية لرسومها الجمركية. ومع ذلك يمكن الجدل بأن التأثير لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيؤدي - مع مرور الوقت - إلى هزات اقتصادية لكندا وللمكسيك بدرجةٍ أكبر، وعدم الاستقرار الاقتصادي سيؤدي بالتالي إلى إرباك اجتماعي وأمني، وسيأخذ الأمر بعداً آخر إن قرر البلدان أو أحدهما عقد شراكات مع بلدان أخرى منافسة للولايات المتحدة، ففي الحسابات الاستراتيجية ستعد الولايات المتحدة ذلك نهشاً لمناطق نفوذها وسطوتها أياً كانت تلك الدول، حتى وإن كان من أعضاء الناتو أو مجموعة السبع. وهكذا، فلعل أحد الخيارات هو إعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الثلاثية التي وقعت العام 2020 لتصبح اتفاقية تكتل اقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي.