الحاج خليل في ذمة الله
سنينا طويلة مرت وأنا أتذكر تلك التغريدة التي تسبق أذان الظهر، أرهف السمع لصاحب التغريدة الملائكية وهو يمر بالقرب من باب بيتنا في حينا الشعبي ”الحوامي“ منادياً أهل الحي؛ يااللوز يااللوز، لوز لوز، ياالكنار ياالكنار، كنار كنار، يالكعاك يالكعاك، كعك كعك، يالتوف يالتوف، توف توف!
هكذا كنت أسمعه كصوت الجدة عندما تنشد الأبيات التي تجعلنا نخلد إلى النوم، أو كهلهولة أم في عرس بنتها، حتى كبرنا وعرفنا أنه صوت الحاج «خليل المهندر» وهو ينادي باللهجة البلدية على بضاعته الموسمية التي تنتجها الطبيعة على أرض جزيرة تاروت، وقبل أن ينتصف النهار نجلس على دچة الباب في انتظار الحاج أبو إبراهيم وهو يجوب الأزقة بعربته الطويلة.
يمر علينا بثوبه الأبيض الفضفاض وغترته البيضاء التي عصبها على رأسه، وهو يجر عربته مناديا بصوت يختلط فيه أنين الناي مع بحيح من حشرجة بكاء ضارب في القدم منادياً على كل منتج موسمي باسمه؛ اللوز - والكنار - والتوت - والكعك، ليختلط نداؤه الذي يشبه النواح مع روائح الخبز المخبوز في تنانير الطين على يد رجال بلدتنا الذين رحلوا من هذه الحياة دون رجعة يرحمهم الله تعالى.
يا الله كان كأنه ينعى أحد أحبته حينما ينادي الناس بما يحمله في العربة، فتختلط الأصوات في ذاكرتي مع من كان ينعى آل البيت برايته، فأحاول لملمة الأصوات لكي لا تختلط الذكريات فأعجز عن تميزها ولمها، كعك يا الكعك لوز ياللوز توت يالتوت، هذه كانت أكلات الفقراء قبل اختراع وإنتاج الشبس والبيبسي كولا التي تباع على الأطفال، والمحتوى زيوت مهدرجة ومياه غازية مغمورة بكثير من السكر!
يتجمع الأطفال من الجنسين حول بائع الكنار، وتبقى الأمهات يراقبن زبائن الحاج خليل وهم يلعقون بأصابعهم فوق كيس من الخيش بداخله دوائر خضراء اللون براقة، يا ترى كم أمنية عند الأطفال المحدقين حول عرّبت الحاج خليل؟، أمنياتهم تعلقت بما تجود به تلك الأكف التي تحمل لهم عدد حبات الكنار البلدي فيركضوا إلى منازلهم يبشرون أمهاتهم بشراء حبات قليلة من الكنار لذيذة الطعم.
ختاماً: كثيرون من رجالات بلدتي يرحمهم الله كانوا يجوبون أزقتنا الضيقة، بعرباتهم وهم يعرضون بضاعتهم المصنوعة من الطين والعيدان الخشبية والخيوط والورق، فرارات وحلويات وايسكريمات، آخرهم كان الحاج خليل المهندر يرحمه الله تعالى.