آخر تحديث: 13 / 2 / 2025م - 9:37 م

صاحب الابتسامة المشرقة

عقيل المسكين *

المسك:

- لم أنسَ جارنا المرحوم حسن الشيخ، وهو والد زميلنا في الدراسة الابتدائية وصديقنا علي الشيخ، الإداري الكبير في أحد البنوك المحلية حاليّاً، كان هذا الرجل الحاج حسن الشيخ ربّ أسرةٍ ويعيش في منزل مقابل للبيت العود من الجهة الشرقية، وبمجرد أن يخرج أيّ شخص من بيتنا من البوابة الشرقية يكون بيت جارنا الحاج حسن مقابله مباشرة، وتكون بوابة منزلهم من جهة اليمين قليلاً، ولم أنس حتى لون بابهم الخشبي ذي الدرفتين المصبوغتين باللون البني المائل إلى الاحمرار قليلاً، كما لا أنسى أنني دخلت هذا البيت كثيراً للجلوس مع زميلي الأخ علي، وكذلك أثناء تفقد عشة الحمام التي يرعاها فوق بيتهم، أو لزيارتهم كعائلةٍ تعتبر من أصدقاء عائلتنا الكبيرة، وأتذكر أنني تناولت الغذاء وكذلك العشاء عدة مرات عندهم وأنا طفل صغير في تلك المرحلة، وكنت أعرف جميع أخوة زميلي علي وكذلك أخواته، ووالدتهم تعتبر من النساء الكريمات في الحيّ وتُكنّي بأم عليّ وهي من اللواتي يستمعن للقراءة الحسينية بمجلسنا في الدور السفلي، سواء في العادة الأسبوعية للقراءة الرجالية حيث يجلسن النساء في الصالة مع جدتي أم ناجي وأمي أم عقيل وخالتي أم حسين وأخواتي وعماتي، وبعض نساء الحيّ، أو في القراءة النسائية التي يتم عقدها في موسم محرم من كلّ عام هجري.

لقد كان ربّ أسرة هذه العائلة الحاج حسن يشغل وظيفة مهنية في إحدى الشركات الوطنية - وقتئذٍ - وكنت أشاهده تقريباً كلّ يومٍ أثناء خروجه صباحاً لانتِظار باص العمال التي يُقِلّه إلى مكان عمله؛ وهو يلبس لباس عمله الذي يتكون من بنطالٍ وقميص ولا أنسى كان لونهما الأبيض؛ كما أتذكر أن القميص الذي يرتديه يوجد على الجيب المحاذي لكتفه الأيسر شعار الشركة التي يعمل فيها، إضافة إلى تلك القبعة التي تحمي رأسه من أشعة الشمس، كما إنه كان يحمل كيساً أحياناً أو حقيبة صغيرة يضع فيها ذلك الذي يُسمى بالسفرطاس الذي يحفظ الطعام لوجبة الغذاء في الوقت المستقطع لصلاتي الظهر والعصر، ومن ثم تناول وجبة الغذاء، والسفرطاس كما يعرفه العُمّال يتكون من طبقتين أو ثلاث طبقات، حيث يمكن للعامل حفظ الرز في طبقة، والإدام من لحم أو دجاج أو سمك في طبقة، وفي الطبقة الثالثة يمكن وضع السلطة أو قطع من الفواكة، وكلٌّ حسب ذوقه في الطعام وحسب حاجته، وقد تكرر انتباهي لما يحمله الحاج حسن وتَركّز في ذهني تساؤلٌ عن ماهيّةِ هذا الشيء الذي كان يحمله - وقتئذٍ - ولماذا يذهب به إلى عمله بشكل يومي، وعرفت عن سبب استعمال العمال للسفرطاس هذا من خلال الاستفسار عنه لدى والدي أو والدتي ذات يوم، فحصلت على الإجابة الوافية، واللطيف من الحاج حسن أنه لا ينظر إليّ وأنا أمرّ بجانبه حاملاً حقيبتي المدرسية متوجهاً للمدرسة إلا بابتسامتهِ الجميلة، التي لا تزال تدغدغ مشاعري وأحاسيسي منذ تلك الصباحات العطرة حتى يومنا هذا.

كما لا أنسى وهو ينظر إليَّ وأنا أعبر الطريق للجهة الأخرى بعينٍ عطوفة والتفاتاتٍ حذرة، كأنه يحميني من عبور السيارات، بل إنه كان يمنعني من العبور إذا كان في الطريق بعض السيارات القريبة، ويؤشر عليّ بالعبور إذا فرغ الطريق أو كانت السيارات بعيدة بحيث أستطيع العبور بسلام، وكم كنت معجباً بتصرفه الأبوي هذا.

وكذلك في بعض الأيام كنت أشاهده في الطريق الملاصق للبيت العود وهو راجع من عمله بعد ساعات الدوام الرسمي ورغم التعب الذي يبدو على وجهه وعلى حركته ولكنه مع ذلك لا ينظر إليّ إلا بتلك الابتسامة المدهشة التي تحمل في طيّاتها الكثير من التفاؤل والكثير من الأمل بالحياة.

وفي بعض الأيام أشاهده لابساً الثوب والغترة والعقال لا سيما أيام الإجازة الأسبوعية، أو في أوقات المغرب حيث لا يوجد دوام رسمي وقتئذٍ فأسلّم عليه فإذا به يصافحني مصافحة أكثرها تلك الابتسامة التي عوّدني عليها كجار حنونٍ بِجيرانه الصغار أمثالي، فأتعجب منه أيّما تعجب وأندهش من تصرفه اللبق أيّما اندهاش، حتى دخل قلبي هذا الرجل وأحببته واحترمته، بل احترمت وقدّرت كلّ أفراد عائلته من صديقي علي وإخوته وأخواته ووالدتهم الحاجة أم علي ”رحمها الله“.

يقول واسيني الأعرج:

- ”السعادة لا تحتاج إلى إحالات كبيرة، أشياء صغيرة قادرة على أن تهزّنا في العمق“.

وكلنا نبحث عن هذه السعادة بأيّ طريقة كانت، بينما يعتقد أغلبنا أنها في كثرة المال وتوفير لوازم المعيشة من سكن وفير وملبس أنيق ومأكلٍ لذيذ وترفيه رغيد وما إلى ذلك، ولكنّ هذا الرجل رغم أنه لا يتكلم، وقد شاهدته عدة مرات يتحدّث مع أفراد عائلته ومع الآخرين بلغة الإشارة إلا أنه تَصَالح مع نفسه وتعايش مع هذا الابتلاء الذي أُصِيب به واستطاع بابتسامتهِ مع الآخرين أن يعيش سعيداً سعادة حقيقية مِلؤها الرضا بما قسمه الله له في هذه الحياة، رغم مكابدته كموظف بسيط ليوفر وسائل المعيشة لعائلته، ولم ييأس من الحياة مُطلقًا حتى لو تألّم وتألمت عائلته كما علمت ذات يوم من والدتي كيف أن قرينته أم علي ”رحمها الله“ كانت تعاني كثيراً ممن ضيق ذات اليد بسبب ضعف راتب زوجها أبي علي الحاج حسن الشيخ، ولكنني بمجرد أن أرى الابتسامة على مُحيّا هذا الرجل في الأيام التالية أتذكّر ما سمعته من والدتي عن ضيق معيشة عائلة هذا الرجل وسرعان ما يتبدّد ذلك الكلام وأقول في نفسي إن هذا الرجل يستقبل الحياة بمرارتها بهذه الابتسامة، بل ويقهرها في معركته معها، تماماً كما قال ذات يوم آرنست همنغواي:

- ”الدنيا مكان جميل يستحق القتال من أجله“.

وهذه الكلمة تؤخذ بهذا الاعتبار في المثال الذي تقدم حيث تبرز شخصية الحاج حسن الشيخ لمقاومة كل عقبات وصعوبات الحياة والواقع، ولعله يأتي من يفسّر كلمة همنغواي بقوله: هذا الكلام غير صحيح لأننا نقاتل في هذه الحياة من أجل الدفاع عن أنفسنا فقط ضد من يريد سلبنا حقنا في الحياة، وهذا صحيح أيضًا لأن العقبات والصعوبات التي قاتلها الحاج حسن هي بمثابة العدو الذي يجب مقاتلته والانتصار عليه.

الروائياتي:

- مقالك القصصيّ هذا عن جاركم الذي كان يحمل ابتسامة دائمة ويمتاز بلباقته مع الجيران هي من تلك الحكايات الإنسانية التي تترك أثراً عميقاً في الذاكرة، وتجسد الجوانب الإيجابية للإنسانية بالرغم من التحديات. إنها أشبه بالقصص التي تحتفي بقيم البساطة، والتسامح، والود الذي يبقى خالداً في القلوب، وفي عالم الأدب هناك العديد من الشخصيات التي تحمل سمات مشابهة لهذه الشخصية، مثل التواضع، والحكمة الصامتة، أو المواقف التي تترك أثراً لا يُنسى. إليك بعض الأمثلة التي يمكن أن تستوحي منها أثناء حديث الشخوص في الروايات أو المسرحيات:

شخصية الأسقف ميريل التي ساعدت جان فالجان في رواية فيكتور هيجو «البؤساء»، هي مثال على إنسانيةٍ لا تُنسى، حيث ترك الأسقف بتصرفاته البسيطة وكلماته الهادئة أثرًا لا يُمحى في حياة بطل الرواية وهو جان فالجان نفسه، رغم أن شخصية الأسقف ميريل لم يظهر طويلاً في هذه الرواية، وكذلك نقرأ في رواية ”أن تقتل طائراً بريئاً“ لهاربر لي؛ شخصية آتيكوس فنش وهو المحامي الذي يجسد العدالة والأخلاق العالية، ويساعد الآخرين بصمت، مثلما يساعد أطفاله في فهم قيمة الإنسانية واحترام الآخرين دون تمييز، وكأني أقرأ شخصية الحاج حسن الشيخ في قصتك القديمة - وهو جاركم صاحب الابتسامة العجيبة - وكأنه يمدّ لك شيئاً ثميناً تسعد به وهو المصافحة الحميمية والابتسامة المدهشة، وهي هدية معنوية غالية جداً.

وهناك أعمال كثيرة جداً في مختلف أجناس الأدب الإنساني، ولدى غالبية القوميات المنتشرة على خارطة العالم، والأهم من رصد وإحصاء هذه الأمثلة هو تنوّعها الجميل، والمتغير من موقع لآخر ومن جنس لآخر، وكذلك طبيعة الشخصيات ونوع تخصصاتها في الحياة وحركة البناء المجتمعي ودور هذه الشخصيات ضمن النص الأدبي المستهدف، حيث يمكننا رصد أمثال هذه الشخصيات في دون كيخوتي لسرفانتس، وكذلك هناك شخصيات كهذه في أعمال تشخوف الذي برع في صناعة الشخصيات الصامتة أو الثانوية أو قليلة الظهور إلا أنها مليئة بالمعاني الإنسانية مثل صاحب الابتسامة المشرقة في قصتك الذي ذكرتها، وحسب قراءتي للأدب الإنساني يمكن أن تمثل شخصية جاركم هذا نموذجاً جميلاً في الأدب لعدة أسباب، وأهمها كونه يمثل رمزاً للبساطة الإنسانية، حيث يعكس كيف يمكن لتصرف بسيط ك ”الابتسام“ أن يترك أثراً عميقاً في الآخرين، وكذلك إدراكه الفطري بأهمية الأثر العاطفي حتى في غياب الكلمات، يظل الإنسان قادراً على التواصل بروحه وإشاراته، وكذلك براعة هذا الجار القديم في إدراكه بأهمية تكوين الذاكرة الجماعية لشخصيته عند الآخرين قربوا أم بعدوا فمثل هذه الشخصيات غالباً ما تبقى خالدة في ذاكرة المجتمع وتتحول إلى رموز للقيم النبيلة، ومن خلال حديثك عنه وقد مضى على ذكرياتك عنه نصف قرن أو أكثر فهو بحق استطاع أن يؤثر عليك ويعلمك بتصرفاته الجميلة دون كلماته، كما يمكن أن تكون شخصية كهذه محوراً لقصةٍ عن إنسان يُغيّر حياة من حوله بلغةِ الابتسامة والإشارة، ويترك وراءه إرثاً إنسانياً لا يُنسى.

المسك:

- صدقت أيها الروائياتي، ولكن أمثال هذه الاقتراحات الجميلة تحتاج إلى صفاء الذهن، والقراءة المركّزة حول تلك الأمثلة التي ذكرتها، مع المقارنة والمقاربة أثناء عملية التكوين الأولى لمشروع أدبي كهذا، وهو ليس بالمستحيل مطلقاً، وشخصية جارنا الحاج حسن الشيخ رحمه الله يستحق ذلك وأكثر.