آخر تحديث: 29 / 1 / 2025م - 10:51 م

وترجل الفارس أبو فارس

عبد العظيم شلي

بين المسرات والأوجاع تمضي حياتنا، لكن وجعاً واحداً ينسيك عشرات المسرات والعكس ليس صحيحًا خصوصًا إذا كان الوجع شديدًا مثل فقد أحد الأحبة.

صباح أمس جاءني خبر رحيل حبيب، خبر مفاجئ، صادم، مؤلم، موجع، لم أكن أصدق فحوى الرسالة، مرددًا: أمعقول يرحل هذا الإنسان المحبوب من الجميع، لم أسمع أنه مريض، أو يتعافى من سقم، خبر جعلني في حالة من الذهول والصمت المطبق.

كيف لحروف وكلمات أن تنقلك من حال لحال، بعد لحظات من رمش العين وإبصار نور الصباح متنفسًا بالدعاء لأمي الممددة على السرير الأبيض، ومتفائلًا بنور الشمس، متنعمًا ببرودة الشتاء، وفجأة تقع العين على صيغة الخبر: «انتقل إلى رحمة الله تعالى الشاب المعلم محمد أحمد عبدالله آل عيد عن عمر ناهز 46 عامًا، من أهالي تاروت الدشة»، يا له من خبر قاس، لذت بقروب المعلمين وإذا بالرسائل في البدء متباينة بين تأكيد ونفي الخبر، ولا سيما عند تباشير الصباح الأولى، إلى أن جاء الخبر اليقين عند ذلك توالت التعزيات مكتسية بألوان الحزن والأسى مرفقة بمزيد من الآيات وصور الراحل.

يا أبا فارس لماذا استعجلت الرحيل؟ كنت قبل سويعات بين الأحباب تجلجلهم بالضحكات، توزع على السمار الابتسامات وتفانين الكلام، لم يكونوا يعلمون أن جمعتك معهم ليلة الجمعة كانت آخر جمعة، ضحك وفرفشة حتى مطلع الفجر، وما إن طلع نور صباح السبت إلا ونور محياك انطفأ وفارقت الحياة.

آه يا شمعة الشبان أمكتوب لك هذا العمر أن ترحل، هل عمرك مخروم أم محتوم!. يا للأقدار الموجعة التي تأتينا من حيث لا نحتسب، رحلت وتركت فينا غصة، نقلب الأيام ووجهك ماثل أمامنا بين سلام وضحكة، لا إراديا، نفتش عنك بين أضابير الصور والذكرى، هي مواساة لقلوبنا الثكلى، وأية ذكرى نقلبها وأي مشاهد نستعيدها، هي ذكريات عطرة لسنوات جمعتك بين عديد الرفاق والأحباب من مجاميع طلاب وزملاء مهنة وأخوة أعزاء، في مدرسة البحتري بأم الحمام، ورحاب مدرستين في نطاق جزيرة تاروت الربيعية الابتدائية لمدة إحدى عشرة سنة وسيد الشهداء لثلاث سنوات، وكذا في ديوانية المزرعة حيث الأصدقاء الخلص.

كان دورك كبيرًا وشاقًا في المدارس، معلم «مرشد طلابي» لا يهنأ لك جلوس بين شكوى واستفسار من لدن التلاميذ وأولياء أمورهم، ترضي من وتنصف من، تداري هذا وتطبطب على كتف ذاك، كنت الموجه العطوف والآخذ بيد الصغار لامتلاكك زمام الثقة وترويضهم من رهاب المدرسة ولا سيما الطلبة المستجدين والمتوجسين خيفة من رؤية ضجيج المجاميع، كنت همزة الوصل بين الأهالي والمعلمين لمهنة تعتبر من ضمن أشرف المهن، عسيرة إلا على الصابرين.

كنت مثالًا للصبر بإرضاء الشاكي والمشتكى عليه، كنت حصيفا بلملمة الإشكاليات التي تخرج الإنسان عن طوره، كنت سندًا للجميع، تكسب القلوب.

ولكاتب السطور كنت صمام أمان، ذات يوم حيث أخذت بجبر الخواطر، وكنت الحكيم المداويا، ولي نصيب وافر من محبتك للعبد الفقير أدرك حجمها أثناء الحضور والغياب، حين تقاعدت من المدرسة، كنت حقيقة أشتاق لمناكفتك كرويًا، وخصوصًا حول الجدل العالمي أثناء لقاءات كلاسيكو الأرض، أسر معك نقاشًا حيث يحلو التنفيس رياضيا لننسى برهة من الزمن ضغوطات الحياة.

يا أبا فارس كم كنت تتوق لأحاديثي حين أسرد لك ذكرياتي مع أخيك الأكبر المرحوم عبدالله زميل الدراسة وشقاوة السباحة في حمام تاروت وعراك الصبا في الطرقات،

حين أذكره تهل دمعة حيث مات غريبا في بلاد العم سام غادرنا شابا لم يتجاوز الثلاثين من العمر. والدمع لامع وحار على رحيل والدتك جارتنا العزيزة، صديقة والدتي وهن في كنف الديرة حيث يحلو العيش والصحبة الجميلة، لا تزال أمي تذكر هداياها وجياتها لبيتنا حتى بعد أن فرقتهم الأمكنة، وتقول لنا: «هذا ما تبقى من ذكرى المرحومة فاطمة بت حجي عون أبو سرير»، رحلت في لمح البصر، وتبعها ابنها أمين، ذهبا نتيجة ضحايا الإسفلت قاصم الأعمار.

وبحكم الفارق الزمني بين أعمارنا فقد أدركت والدك الحاج عبدالله مثالًا لخدمة أبناء البلد حيث كان أحد مؤسسي جمعية تاروت الخيرية نهاية الستينيات الميلادية وأحد أعضائها المخلصين لسنوات، وهل عرفت بأن أباك أصبح يتيمًا وهو لم يزل طفلًا وعاش في كنف حاضن الأطفال اليتامى الحاج علي عيسى الدخيل، وحين شب عن الطوق كون نفسه بنفسه موظفا في شركة أرامكو، ويعتبر أحد رجالات البلد البررة، رحمة الله عليه وعلى روحه السمحة المحبة للخير، وعلى والدتك المرأة المؤمنة.

يا أبا فارس معروف عنك حبك وتشجيعك اللامحدود لنادي الهدى حيث المقر بجوار منزلكم بالدشة وأنت الذي ترعرعت في رحابه رياضيا، بل أبصرت النور والكرات تتوالى طرقا على نوافذ منزلكم، كنت فخورًا بالتصوير وأنت حامل كأس بطولة النخبة التي حاز عليها الهدى في لعبة كرة اليد على مستوى المملكة، وذلك قبل بضعة أشهر.

آه يا أبا فارس رنين ضحكاتك مجلجلة أثناء فطورنا المدرسي وعزائم المعلمين، بلع وزفر طرائف ودعابات وتنكيت لا ينقطع وبشكل مستمر حتى ظننا أنك أتيت لدنيا ليس باكيا بل ضاحكا!

وكم تبادلنا الضحكات على ضفاف المحيط الهندي صدفة حيث جمعنا اللقاء ذات يوم والتقينا في بلاد «سيلان» ويا لها من فرحة أن تلتقي عوائلنا في ”نوراليا“ وتتعارف معًا ونأخذ جولة في قارب صغير يمر بين منعطفات عديدة وبين ظلال أشجار القرم ودهشتنا لرؤية اختلاط المائين الحلو والأجاج وتغريدات طيور الأنهار، صور وثقتها قلوبنا قبل الكاميرا.

عن أي ذكريات وصور أقلبها، يا أبا فارس أتمعن في ملامحك لأواسي النفس العليلة، عيونك قبلات ترحيب وقلبك فيض حب وفمك مترع بالابتسام، يا طلق المحيا، ما أظنك أغضبت أحدًا أو زعل منك إنسان، كنت لبقًا في الكلام، وأي لقاء معك، إن كان مقدرًا ساعة نصفه ضحك في ضحك، حيث لا تمر جلسة أو جمعة إلا وضحكاتك تعلو المكان.

ها وقد غادرت كل الأمكنة التي آنستها بحضورك الفتان سيبكي عليك الجلاس وجميع الإخوة والزملاء والأقارب والأرحام سيقولون مكانك خال يا فارس الفرسان.

وكم هي معزتك غالية في قلوب المحبين لك مسكونة بالعرفان، حيث حظيت بتشييع مهيب، تقاطر الجمع من كل حدب وصوب لمواراتك الثرى، وداع ترك الحسرات مثقلة على الوجوه المكلومة لحشود امتلأت بهم المقبرة.

رحمك الله يا حبيبنا رحمة الأبرار

كم سكبت الدمعات على أبي الأحرار

ومشاركتك لعزاء فريد يوم العاشر من محرم، توقف ذلك العزاء منذ زمن، وعند تباريح الصبح توقف قلبك عن النبض، فارقتنا من غير استئذان ولا غلبة قاسيتها ولا أنين، إلا من ضغطة على الصدر لبرهة من الوقت، أسلمت روحك لبارئها وتركتنا حيارى نجتر الذكريات، ترجلت يا فارس عن ميادين التربية والتعليم، وترجلت عن دوواين الأحباب، ستلاحقنا ضحكاتك التي كانت بلسمًا في ليالينا الموحشة.

لكم خالص العزاء يا أبناء وبنات الحاج أحمد عبدالله آل عيد وجميع أبناء عون أبو سرير وعائلة الشيوخ ومشيرب والقمارة، وكل من له صلة بالمرحوم العزيز قرابة ونسبًا، وأحسن الله لك العزاء يا أم فارس وأبناءك الثلاثة، لفقيدكم الغالي المغفرة والرضوان ولكم الصبر والسلوان، كلنا على درب الرحيل سائرون.