آخر تحديث: 19 / 2 / 2025م - 6:31 م

حدث في عالم آخر

هناء العوامي

”هل جعلتِها تحلم بالبيت؟“

سمعت نوال صوتا يشبه الكهرباء الاستاتيكية يقول تلك العبارة، ولا تعرف بالضبط متى بدأت تفهم لغة الكهرباء، لكن اللغة أصبحت أكثر وضوحا لها كأنها تكيفت معها..

فتحت عينيها دون أن تتحرك، ولا تعرف لماذا شعرت ببعض الاطمئنان حين سمعت صوت ”شش“، الذي بدا أنها تسمعه بجلدها لا بأذنيها.... صوت يسبب قليلًا من الحكة.. إنها شخص وليست شيئا، وشخص مألوف كذلك.

”هذا مهم لتوازنهم النفسي يا عزيزي، لو بقيت هنا أطول من اللازم فقد لا تتحمل أعصابها، قد تجن قبل أن تكتمل أبحاثنا“.

”هل أنت متأكدة أن وجودهم لا يشكل خطرا علينا؟ هؤلاء الفضائيون من ذلك الكوكب الأزرق، لا نعرف أي كائنات بداخل الكائنات قد يحملونها لنا“.

كائنات بداخل الكائنات؟ هل يتكلم هذا الرجل عن التقاط عدوى ما مني؟ فكرت نوال وهي تشعر بهبة من الكهرباء بجانبها سببت لها القشعريرة.

”إنها مستيقظة“ سمعت نوال تلك العبارة بصوت يشبه الغرغرة وبدون لغة؛ مما يمكن أن تعتبره لغة، مع ذلك أسبلت جفنيها دون أن تغمضهما تمامًا ولم تتحرك، وهي تراقب خيالات خضراء وزرقاء شبحية في بحر من الأصفر الشاحب، بينما تغرق الجهة الأخرى في لون من الأحمر القاني فهمت بشكل ما أنه ظلام. ولم تعرف أي الجهات حولها فوق أو تحت، كأنها تعيش في هذا العالم غوصا..

”إنها هادئة أكثر من اللازم“ قالت ”شش“.

”ربما جنت أخيرًا“.

”ربما، أو قد تكون تقبلت ما يحدث لها وتحاول أن تفهمه، اتركني معها وحدنا قليلًا يا عزيزي“.

شعرت نوال بهبة باردة اختفت بعد ثوان، لكنها ارتجفت، فجأة شعرت بخوف عميق بلغ عظامها..

اقترب منها الطيف الهلامي الذي لم يتشكل كبشر هذه المرة، وانتبهت نوال فجأة لعدم وجود أقنعة على وجهها، أو نظارات تذكرت أن الأخرى فسرت غرض وجودها لترجمة ما تراه، غير أن منظر الطوب الملون على الطاولة لم يتغير.

وكأن المرأة الأخرى لاحظت نظرتها له فعلقت ”أرى أنك لم تلمسي فاكهتنا“.

”ماذا تريدون مني؟“ تمتمت نوال بدون صوت، كانت تشعر بضيق في النفس.

ثم أغمضت عينيها، وغابت في نعاس تمنت أن ينتهي بعودتها إلى بيتها ولو في حلم.

*****

انسالت ”شش“ إلى قصر أبيها، ولمن لم يفهم معنى الكلمة أقول، إنني لا أعرف معناها حق المعرفة بدوري، فهي طريقة في الحركة لأهل ذلك العالم البعيد، وتقع بين حركة الجمادات والسوائل، ولا يعي كيفيتها أهل الأرض، إذ أنهم لا يشاهدون شبيها لها في كوكبهم ولا لكائن مما يعرفونه، لكن دعونا نركز على ما حدث مما قد نجد له محاكاة فيما نعرفه فنفهمه، ونتجاهل الأحداث الأخرى مما لا يخل بسياق قصتنا.

”هذه هي المرة الأولى التي نعثر فيها على جرم يشتمل على حياة معقدة يا أبي، لا أصدق أنك تريد تحويل ذلك الكوكب الأزرق إلى منجم لطاقة ”الروار““

”حياة معقدة؟ إنها كائنات بدائية، وهي تدمر نفسها بحماس كما لا شك أنك لاحظت، سوف نختصر لهم قليلًا من الوقت وحسب، ثم إنك أهدرت بالفعل الكثير من طاقة ”الروار“ لجلب تلك العينات والحفاظ عليها، هذا دين يجب أن يرد“.

”كنت تلومني على تعذيب عيناتي وتصر على أنها كائنات تشعر وتعي، والآن تكلمني وكأنها وجود هامشي يحق لنا أن نسحقه في لحظة من أجل منفعتنا“.

”سوف تختفي من الوجود وحسب، لن تدرك ما حدث لها أصلا، وأنت تعرفين أن كوكبهم مهدد سلفا، نجمهم لن يعيش طويلًا“.

”بل سيعيش طويلًا جدا بإدراكهم“.

”ماذا تعرفين أنت عن إدراكهم؟ اسمعي؟ لولا إصرارك أنت بالذات على دخول عالمهم وجلب عينات منه لعرفنا ما يكفي من خلال مراقبته من بعيد، لكن والحال ليست كذلك، فمن واجبنا تعويض ما خسرناه من طاقة ”الرُوار“ الثمينة لتحقيق مشروعك، بالنسبة لك الأمر مجرد لعبة“.

سكتت ”شش“ برهة بدت دهرًا، تلاه دهر آخر.

”تعرف جيدا أنني أستطيع جعل ذلك العالم خفيا غير مرئي بالنسبة لمجلس علمائك ذوي المعاطف السلموحية برمته، أليس كذلك يا سيدي؟“، حين تتكلم برسمية فذلك يعبر عن أمر....

أصدر والدها بعض التشويش الاستاتيكي المعبر عن سخطه ولم يرد.

”أستطيع تغيير مكانه بالنسبة لهم، إيهامهم أنه يقع في مجرة أخرى، لا أحد منهم يفقه كنه الأمر أكثر مني في أمة ”الزطاريخ“، أقدر أن أتواصل مع ذلك العالم أكثر من علمائك الذين ينفذون الأوامر وحسب“.

”أعلم مدى شغفك بدراسة الفضاء واقدره صدقيني، لكن ذلك الكوكب هالك، سوف نعجل الأمر لخير أمتنا، وإلا فإن شعب الزراطيق المحارب لنا سيفعل أولا“.

أصدرت ”شش“ بعض الذبذبات الكثيفة التي يمكننا اعتبارها ضحكا، قبل أن ترد ”تلك الأمة ستجد نفسها قد ضاعت بالكامل في الثقوب الدودية قبل أن تعثر على كوكب مأهول ولو بحياة بدائية، إنهم مجرد ”إصطربات“ لا تفقه“.

ثم انسالت مغادرة وهي تتوهج كأن فكرة جديدة تمامًا قد طرأت لها.

*****

انتهى خالد من كتابة ما سبق وقرأته في الصفحات السابقة، ثم فرك عينيه، هو يكتب بعض الأشعار من وقت لآخر لكن ما كتبه لا يبدو شيئا يمكنه أو يروق له حتى أن يكتبه، ارتجف بردا رغم أننا في فصل الصيف، كان يشعر بشكل ما أنه كان يكتب بإيحاء من تلك الأجسام المجهولة التي كان يراها أحيانا في البر، وكأن كيانا مجهولًا ما يحاول أن يحذره من خطر وشيك.

*****

تأمل بتلات النار وهي تدغدغ سماء نجد، ثم مزق ما كتبه.

تمت

والد ”شش“: ”كل ما سنفعله هو تعجيل الأمر قليلا“.

”شش“: ”أنا من بدأت هذا الأمر، ولن أسمح بأن ينتهي بما لا يرضيني“


هامش: ”الإصطربات“ هي كائنات بدائية كبيرة الحجم تعيش في كوكب ”الزطاريخ“ الواقع على حافة درب التبانة - المؤلفة.