آخر تحديث: 29 / 1 / 2025م - 10:51 م

العملات المشفرة: ورطة ترمب أم فرصته؟!

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال

أسئلة ليست مشفرة

تَحَوَلَ موقف الرئيس ترمب من العملات المشفرة من النقيض إلى النقيض، ففي العام 2019 قال إن هذه العملات ”تسهل الأنشطة غير المشروعة“، وإبان حملتهِ الانتخابية وقبل موعد الانتخابات حدث التحول، ولعل ذلك يعود أساساً إلى سجية ترامب الباحثة عن ”الصفقة“، لتتكيف معها تبعاً للمصلحة وللمكاسب، من مطلق ”اللي تكسب به، إلعب به!“ لينتهي به الأمر مؤخراً على أنه مؤيد للعملات المشفرة، استجابةً لاتجاهات السوق وللمكاسب السياسية، فكيف ستكون خارطة طريقه، وهل سيتمكن من العمل مفرداً ليأخذ العملات المشفرة من ”الرصيف“ إلى المنصة الرئيسية؟ وهل سيتمكن أن يفعل ذلك متجاوزاً أصحاب المصلحة الأشداء من أرباب القطاع المالي التقليدي؟ وإن تجاوز هؤلاء ولن يستطيع، فهل بوسعه تجاوز المنظمات المالية العالمية صاحب النفوذ؟

تحول ترمب إلى التشفير

وطلباً للتحديد، يمكن إرجاع ذلك التحول لعدة أسباب (أو مصالح) من المفيد تناولها سريعاً، حتى تلقي الضوء على التوجهات المحتملة لهذه الصناعة خلال الولاية الثانية للسيد ترامب والتبعات الاقتصادية والمالية لذلك:

(1) استقطاب أصوات الناخبين الشباب المهتمين بالعملات المشفرة والمحبطين من النظام المالي التقليدي السائد الذي يدار من قبل البنوك المركزية.

(2) تمويل حملته الانتخابية من قبل كبار المستثمرين في العملات وفي صناعة التشفير، فقد حصلت حملته على أموال وبنت علاقات مع المؤثرين في صناعة التشفير، وليس مستبعداً أن أشخاصاً مثل إلون ماسك، المتحمس للعملات المشفرة، قد أقنع الرئيس المنتخب ترامب بجدوى تبنيه للعملات المشفرة استراتيجياً وليس للمدى القصير. ولابد هنا من التذكير أن إلون ماسك كان مناصراً قديماً للعملات المشفرة حيث ساهم تبني شركته (تيسلا) في العام 2021 بأن قفز سعر البتكوين إلى 69 ألف دولار، بعد أن كان قد انهار إبان جائحة كوفيد إلى 4 آلاف دولار في أوج الجائحة (مارس 2020).

(3) المكاسب المالية التي حققها (11 مليون دولار حتى الآن) جعلت ترمب يتراجع عن نعوتهِ للعملات المشفرة بأنها ليست نقوداً وأنها تستند إلى فراغ (Thin Air)، فحالياً يستثمر في عملة ”إثيريوم“ (Ethereum) وأصدر عدة مجموعات من الرموز غير قابلة للاستبدال (NFT) الخاصة في لقطات متعددة وهو يلعب جولف ويلبس قبعة كاوبوي ومجموعة أخرى تسمى مجموعة ”أمريكا أولاً“، ما يؤكد اهتمامه الشخصي بدخول عالم التشفير ليس فقط كمستثمر بل كمصدر للرموز. وما يُثبت اهتمامه بتحقيق مكاسب شخصية من إصدار الرموز مفاجأة العيار الثقيل جداً التي أطلقها يوم 18 يناير، قبل يومين من استلامه مقاليد السلطة، بإصدار عملة مشفرة باسم $TRUMP""، التي حظيت بإقبال كبير، فقد كانت قيمتها عند الطرح 18 سنتاً، وحالياً (عند كتابة هذه الأسطر 19 يناير) 36 دولاراً أمريكياً. ولهذا التصرف دوافع لتحقيق مكاسب شخصية مالية وتحيز للعملات المشفرة من رئيس دولة عملتها هي عملة الاحتياط الرئيسة في العالم وتحمل ديوناً مقومة بعملتها الوطنية (الدولار الأمريكي) بقيمة 36 ترليون دولار أي ما يعادل 122 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، وقرابة 33 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للعالم، وفي ذلك تعارض للمصالح وتعريض حصانة مقعد الرئاسة بحكم أن شاغلها له اهتمامات تجارية قد تؤدي إلى تحيزات قد تؤثر على استقلالية قرار السلطة التنفيذية ليكون مؤشره الصالح العام.

(4) وعود انتخابية لوضع بيئة تنظيمية محابية للتشفير، منها وعده بجعل الولايات المتحدة ”عاصمة التشفير على هذا الكوكب“، ولعل خلفية ذلك الارتفاع الكبير الذي شهدته العملات المشفرة خلال العام 2023 مدفوعةً بموافقة هيئة الأوراق المالية الأمريكية (SEC) على تأسيس صناديق استثمارية (EFTs) في يناير 2024، ما أدى لارتفاع في سعر البتكوين نتيجة لزيادة الطلب وسهولة الاستثمار فيها من خلال منتجات أقل خطورةً تقدمها مؤسسات مالية تقليدية رصينة، وليس أدل على ذلك من أن تلك الصناديق استقطبت مليارات الدولارات خلال أسبوع من اطلاقها. هذا التطور بين لترامب ومستشاريه أن هناك فرصة ذهبية لبناء إطار تنظيمي متكامل لاستيعاب أنشطة صناعة التشفير.

(5) توجه مالي جديد بأن تأخذ أمريكا زمام المبادرة بإلغاء القيود على العملات المشفرة وبناء احتياطي اتحادي من ”البتكوين“ وتبني أنشطة التعدين، مما سيمكن الرئيس الجديد من استقطاب ليس فقط الدائرة الضيقة المهتمة بالتشفير بل كذلك الممولين والبنوك الاستثمارية والمستثمرين الأجانب وأرباب التقنية والابتكار.

مستقبل التشفير مع ترمب الرئيس

ليس من المبالغة القول إن صناعة التشفير محاربة وتقبع خارج سياج قطاع الخدمات المالية التقليدية، وأن ”حرباً“ ضروساً تدور لترويضها ومن ثم إدخالها للقفص، فأحد الفروق الجوهرية بين العملات التقليدية والعملات المشفرة هو أن المشفرة تتجاوز البنوك التجارية والمركزية ولا تخضع لسياساتها النقدية. لكن موقف القطاع المصرفي من العملات المشفرة ليس جامداً بل يلاحق الفرصة ملاحقة لصيقة وبتحفظ، فقد تطور موقف شركات الخدمات المالية التقليدية والبنوك التجارية الكبرى من الرفض إلى التوجس إلى الانخراط المقنن إلى الاعتراف بالفوائد المحتملة والتحديات التي تفرضها العملات المشفرة، لكن موقف المؤسسات المالية يتفاوت إذ لا يزال هناك تنوع كبير في كيفية تعامل المؤسسات المختلفة مع هذا المجال، حيث يكون بعضها أكثر استباقية من البعض الآخر، ولهذا التفاوت تبعات في كيفية إيجاد أرضية واحدة لتنظيم نشاط العملات المشفرة تقبل له تلك المؤسسات ولا تعتبره مهدداً لنشاطها و/أو مزايا التنافسية وحصتها من سوق الخدمات المالية.

ومن زاوية أوسع فالقضية عالمية تتجاوز حدود الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم - بما في ذلك الولايات المتحدة - منقسم إلى ثلاث مجموعات: من يمنع التداول في العملات المشفرة، ومن يسمح بتداولها، ومن يسمح بتداولها ويسمح كذلك باستخدامها كأداة سداد ووفاء (بأن تُعَدُ نقوداً)، والمجموعة الأكبر هي لابد من الإقرار أن إبقاء صناعة التشفير خارج سياج قطاع الخدمات المالية حيارٌ اتخذته العديد من الحكومات لكنه غير قابل للاستدامة، فصناعة التشفير ليست قادمة بل هل قائمة لكنها محاربة من قبل صناعة الخدمات المالية التقليدية، ولا تلقى حماساً من البنوك المركزية المعروف عنها تحيزها الهيكلي للتحفظ والتحوط والاستقلال وأن تأخذ وقتها في التمعن في الأمور. أما التطورات التقنية لا تنتظر أحداً، وقد قامت صناعة التشفير على كل حال وأصبحت واقعاً ليس بالإمكان تجاوزه فقيمتها السوقية حالياً تُقَدر بنحو 3,2 ترليون دولار) 2 ترليون نصيب بيتكوين ونحو 400 مليار إثيريوم، 150 مليار XRP الخ) وفقاً لستاتيستكا. لكنها حققت ذلك بوضعية أقرب ما تكون إلى وضعية العشوائيات في المدن؛ لا أحد يستطيع نكران أنها أحياء بها سكان وتأخذ حيزاً مكانياً لكنها غير منظمة ولا تحظى بأية خدمات.

وهكذا، فالإضافة الجوهرية التي يمكن أن يجلبها عهد الرئيس ترمب هو أن ينظم هذه ”العشوائيات“، ليس وارداً أن ينجز ذلك من خلال حلول ”ثورية“ بل باتباع منهجية ”سددوا وقاربوا“ بإطلاق منظومة من المبادرات تُحدِث ”كُوة“ في السياج الصلد والشائك الذي يتمترس خلفة قطاع الخدمات المالية التقليدي. فما المجال الذي من المتوقع أن يعمل الرئيس ترامب في محيطه ليجعل الولايات المتحدة عاصمة التشفير في العالم؟

حلم ترمب وتحقيقه

حتى تصبح بلاده عاصمة التشفير في العالم فلابد أن يكون ما سيتخذه الرئيس ترامب من إجراءات مقبولاً من الجهات الدولية المالية المعتبرة لدى البنوك المركزية في المقام الأول، ويأتي على رأسها بنك التسويات الدولية، وجزء من التحدي الذي على السيد ترامب التعامل معه هو التعامل مع البنك فهو المدخل لإحداث تفاهم وربما اختراق بمشاركة البنوك المركزية الأعضاء. أما حالياً، فموقف بنك التسويات الدولية من العملات المشفرة أنها أقرب إلى أصول المضاربة منها إلى النقد، فضلاً عن توجسه لغياب التنظيم والرقابة للتحوط من المخاطر، ومع ذلك فالبنك لا ينكر الامكانات التي تجلبها تقنيات ”بلوكتشين“ للتطبيقات المالية لكن لا يمتد ذلك للحلول محل العملات الورقية، وهكذا فالعقبة الكأداء هي أن البنك لا يقرّ بأن العملات المشفرة هي عملات يمكن استخدامها كنقد.

ومآخذ بنك التسويات على العملات المشفرة جوهرية، ولا يبدو أنه سيتزحزح عنها إلا إن وجدت حلول تغطي المخاوف. فما هي أبرز هذه المآخذ؟ انتقد بنك التسويات الدولية العملات المشفرة بسبب عدم قابليتها على التوسع (scalability) وعدم استقرار القيمة وعدم الثقة في أن تكون وسطاً لتسوية المدفوعات، وعليه لا يمكن للعملات المشفرة الانتشار بشكل فعال لتصبح وسيلة للتبادل. لكن البنك كان إيجابياً بأن دعا إنشاء إطار تنظيمي فعال يحد من تعرض البنوك لمخاطر الأصول المشفرة، وبالفعل تم اعتماد معيار احترازي عالمي بأن يكون تعرض البنوك للعملات المشفرة بحد أقصى 2 بالمائة من احتياطاتها اعتباراً من 1 يناير 2025 (ثم تأجل إلى العام 2026).

مما يكشف المحنى المتحفظ لبنك التسويات الدولي تجاه دمج العملات المشفرة في النظام المصرفي العالمي، هو تمحوره حول التحوط من المخاطر، ولذا فقد اقترح البنك خيارات لمعالجة مخاطر التشفير من خلال: التنظيم، أو الاحتواء، أو الحظر التام، حيث تميل معظم الدول نحو التنظيم. ولم يقف البنك عند طرح خيارات بل سلط الضوء على المخاطر الكبيرة المرتبطة بالعملات المشفرة، بما في ذلك مخاطر حدوث تقلبات هائلة لسوق العملات المشفرة، مما قد يؤدي إلى هزات عامة أو إلى مخاطر تتصل بحلقة من سلسلة القيمة والتعامل مثل عدم الاستقرار المالي، والرسوم المرتفعة، وازدحام الشبكة، والتأثير البيئي لتعدين العملات المشفرة.

في حين يبدي بنك التسويات الدولية اهتماما بالعملات المستقرة (stablecoins) حيث يتعامل معها بنهج تنظيمي مختلف عن العملات المشفرة، وذلك بالتركيز على ضمان أن تكون مرتبطة بعملة تحافظ على استقرار قيمتها، وأن تخضع لتنظيم يسمح بالقدر الأدنى من المخاطر على الاستقرار المالي، ويستجيب للمعايير الصارمة لإدارة الاحتياطي والشفافية والسيولة. وبناءً على ذلك يصنف بنك التسويات الدولية العملات المستقرة إلى فئتين: الفئة الأولى المرتبطة بعملة تحافظ على استقرار قيمتها وتمتثل للمعايير أعلاه، والفئة الثانية غير المرتبطة بعملة وينساق عليها إجمالاً ما ينساق على العملات المشفرة.

وبالمقابل فإن بنك التسويات الدولية أبدى اهتماماً معمقاً بالعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) كوسيلة لتحديث أنظمة الدفع مع الحفاظ على استقرار وثقة أموال البنك المركزي، حيث يتمثل موقف بنك التسويات الدولية من العملات الرقمية للبنوك المركزية في التركيز على البحث والتعاون الدولي والتصميم الدقيق لضمان أن تخدم العملات الرقمية للبنوك المركزية الاستقرار المالي، وتوظف التطورات التقنية لصالح أنظمة المدفوعات، باعتبار أن العملات الرقمية للبنوك المركزية ليست بديلاً بل تطور تقني يعزز فاعلية البنى التحتية المالية التقليدية.

تداعيات وعود ترمب

تتضمن رؤية دونالد ترامب استحداث إطار تنظيمي للعملات المشفرة وعدد من المبادرات لتمكين صناعة تشفير العملات واستقطاب المستثمرين، ويسعى لتحقيق ذلك من خلال:

(1) إنشاء مجلس استشاري للعملات المشفرة: تعهد ترامب بإنشاء ”مجلس استشاري رئاسي للبيتكوين والعملات المشفرة“ للمساعدة في صياغة إطار تنظيمي شفاف يشجع الابتكار والنمو في قطاع التشفير. سيعمل هذا المجلس على تحقيق التوازن بين حماية المستثمرين وتقدم الصناعة.

(2) تغيير القيادات في الهيئات التنظيمية ذات الصلة بالخدمات المالية: تعيينات لقيادات تؤيد توسيع استخدام العملات المشفرة لتشغل مناصب رئيسية داخل الهيئات التنظيمية المالية وتحديداً لجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، ولجنة تداول العقود الآجلة للسلع (CFTC)، ومكتب المراقب المالي للعملة، في مسعى ليحد ترامب من النهج التنظيمي الحالي للجنة الأوراق المالية والبورصات غير المشجع للعملات المشفرة، وقد ينتج عن ذلك يؤدي ذلك لإعادة توجيه الإشراف ليصبح أقل صرامة على فئات من الأصول الرقمية، لا سيما تلك التي لا تصنف على أنها أوراق مالية وبالأخص الرموز على تنوع استخداماتها، وفي مقدمتها الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs).

(3) بناء احتياطي استراتيجي من بتكوين: مما قد يؤثر على ديناميكيات السوق العالمية؛ فقد يساهم إنشاء الولايات المتحدة احتياطي من العملات المشفرة في تحقيق شعار الرئيس ترامب ”جعل أمريكا عظيمة ثانيةً“ أكثر من أي أمر آخر، إذ يمكن الجدل أن إنشاء احتياطي من بتكوين قد يؤدي إلى سعي الولايات المتحدة الهيمنة على صناعة التشفير، ويدفع الدول الأخرى للحذو حذوها، ما قد يؤدي إلى ديناميكية عالمية جديدة محورها العملات الرقمية، قد يتطلب ذلك في نهاية المطاف إيجاد هيئة أو هيئات دولية وبناء تحالفات استراتيجية لصياغة توافق متعدد الأطراف بشأن سياسات العملات المشفرة. فضلاً، عن أن إنشاء احتياطي استراتيجي سيعني إمكانية تدخل الخزانة الامريكية للتأثير على المعروض من العملات المشفرة بيعاً وشراءً، وهذا يعني حزمة جديدة من المخاطر التي ينبغي التعامل معها والتوافق بشأنها دولياً.

(4) تمرير قوانين أكثر داعمة للعملات المشفرة مثل قانون الابتكار المالي والتقني للقرن الحادي والعشرين (FIT21)، والذي يهدف إلى توضيح المسؤوليات التنظيمية بين هيئة الأوراق المالية والبورصات ولجنة تداول السلع الآجلة للأصول الرقمية.

وضع صناعة التشفير عالمياً

لن يستطيع الرئيس ترامب تحقيق كل ما يطمح له منفرداً حتى وإن كان يمتلك تفويضاً من حزبهِ وغطاء من الكونجرس ودعماً من أرباب الصناعة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لجملة من الأسباب:

أن صناعة التشفير ليست صناعة أمريكية خالصة إذ أن سلسلة قيمتها تشمل التعدين والتداول والتنظيم والابتكار التقني وتبني المستهلك (adoption)، وهي سلسلة قيمة منتشرة جغرافياً، وتلعب فيها العديد من الدول - عدا الولايات المتحدة - أدواراً مؤثرة، مثل الصين وكازاخستان في التعدين، وسنغافورة وهونج كونج في البورصات والتداول، وسويسرا ومالطا وإستونيا في الابتكار التقني، فيتنام ونيجيريا والهند والفلبين في الاستخدام، وتبرز في التبني المستهلك دولة الأمارات العربية المتحدة وسنغافورة. ليس بالإمكان تجاوز مساهمات وتموضع هذه البلدان في أجزاء متعددة ومفصلية من سلسلة قيمة العملات المشفرة، من التعدين إلى تبني المستهلك، مما يجعل طموحات الرئيس ترامب وجهاً لوجه مع مصالح هذه الدول وسواها عالميا متنوعا لأنشطة العملات المشفرة. غالبا ما تستند نقاط قوتها إلى مزيج من البيئات التنظيمية والقدرات التكنولوجية والحوافز الاقتصادية ومعدلات التبني الثقافي.

أن هناك منظمات متعددة الأطراف ذات تأثير في رسم المسار التنظيمي عالمياً، يأتي في مقدمتها بنك التسويات الدولية الذي سبق أن أتينا على دوره، ويشارك في عضويته 63 بنكاً مركزياً بما في ذلك الاحتياطي الفدرالي. ولا يمكن تجاوز دور صندوق النقد الدولي، وهو موقف أكثر تفهماً للآفاق التي توجدها العملات المشفرة، إذ أن الصندوق ينادي إلى تنسيق عالمي ويشجع الاستفادة من إمكانات تقنية البلوكتشين لتقديم خدمات مالية أكثر شمولاً وأعلى كفاءة، ولتحقيق ذلك يتبنى التنظيم وليس المنع كمنهج للتعامل عالمياً مع تلك العملات وتقديم العون التقني لأعضائه لبناء المقدرات لتصميم وتطبيق سياسات تشغير فعالية. ومن جهة أخرى، فالصندوق يعارض اعتبار العملات المشفرة أدوات دفع قانونية (legal tender) لصيانة الاستقرار والسيادة المالية، أخذاً بالاعتبار التبعات على الاستقرار الاقتصادي والسياسة النقدية والاستقرار المالي، التي يمكن أن تتجسد على شكل مخاطر داهمة قد يصل تأثيرها على المستهلك والمستثمر وبالتالي سلامة الأسواق.

طريق العبور

يبدو أن طموحات الرئيس ترمب في ان يجعل بلدة عاصمة للتشفير في الكوكب ستواجه تحديات من داخل وخارج أمريكا تتصل بالأطراف التي قد تتأثر سلباً لاسيما:

(1) أن قطاع الخدمات المالية الأمريكي التقليدي له شبكة مصالح لا يمكن الاستهانة بها، وكذلك للهيئات التي تقوم على تنظيم هذا القطاع مواقف ليس من السهل التخلي عنها حتى وإن حدث تغيير في القيادة أعلى هرمها ليس عناداً بل تجنباً لإحداث هزة مالية أو اقتصادية.

(2) أن صناعة التشفير عالمية ولها انتشار في دول متعددة تبعاً للتوزيع الجغرافي لأنشطة سلسلة القيمة وليس من الواقعي تجاوز مصالح تلك الدول وتطلعاتها، فهيكلية العملات المشفرة والتقنية الممكنة لها (بلوكتشين) لا تسمح بذل؛ فهي بطبيعتها موزعة لا تخضع لمركزية.

(3) ليس خياراً مجدياً للرئيس ترمب أن يعمل بمعزل عن بنك التسويات الدولية، إذ لا مفر من أن يعتبره شريكاً، وإلا فإن الحماس المفرط قد يقتل فكرة ”عاصمة التشفير“، فليس خافياً أن المنظمات المالية العالمية ذات الصلة لها توجسات واضحة اتجاه اعتبار العملات المشفرة أدوات أداء ودفع، ويأتي في المقدمة صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية وهما ركيزتا السياسة النقدية والمالية الدولية ولهما تأثير جوهري على الدول المنضوية في عضويتهما من وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية.

وهكذا، فالرئيس ترمب بحاجة للتعامل مع التحديات الثلاثة آنفة الذكر، بأن يبحث عن منفذ آمن، ولعل أقل المنافذ مخاطرة هو البناء على نجاح تجربة صناديق المؤشرات المتداولة (EFTs)، فقد حظيت بإقبال من المستثمرين وحققت لهم عوائد مجزية في العام 2024، فضلاً عن أنها منتشرة ليس فقط في الولايات المتحدة بل كذلك في بقية دول الاقتصادات السبعة الكبار بالإضافة لعددٍ من الاقتصادات الناشئة.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى