آخر تحديث: 30 / 1 / 2025م - 8:21 ص

الشموس الخمس

هناء العوامي

فتحت نوال عينيها ببطء وألم، شاعرة بصداع ممض في رأسها وآلام متفرقة في أنحاء جسمها كله مع دوخة شديدة، شعرت برأسها يزن أطنانا، برغم أنها رفعته بخفة وكأن وزنه قد خف ليصبح بوزن إسفنجة، جسمها كله كان خفيفا كدمية منفوخة بالهواء، شعرت بالجزع وهي تجد على وجهها قناعا يشبه ما كان العرب يلبسونه خلال حرب الخليج اتقاء للغازات السامة، رفعت يديها بتلقائية تحاول رفعه عن وجهها، وزاد جزعها حين وجدته مثبتا بإحكام وكأنه مقفل، نظرت حولها فرأت ضوءا أحمر برتقاليا يغمر المكان وكأنه يحترق، ورأت فوقها خمسة شموس، نعم خمسا، متحلقة في دائرة كأنها تلعب إحدى ألعاب الأطفال إياها، غارقة في لجة من الضوء البرتقالي الدهني المتوهج.

والتي بدورها كانت بقعة غارقة في بحر من الأحمر الدموي القاني، فكرت بأنها كان يجب أن تشعر بالرعب، لكن المنظر أشعرها بالجوع، حتى أن لعابها كاد أن يسيل، ذكرها المنظر بمرقة الربيان التي كانت تطهوها أمها، رغم ذلك كان فمها، وحلقها جافين حد الألم، وكان تشعر ببرد يتناقض مع المشهد الدموي الناري المحيط بها، أجفلت حين سمعت صوتا من على يمينها: ”لقد استيقظَت“، لم تتبين بأي لغة كان الصوت، وإن بدا كصوت غرغرة ذكرتها بكلمات أغنية مصرية تقول ”إني أتنفس تحت الماء“، لا بد أن من يتكلم تحت الماء سيُسمع صوته هكذا، التفتت لترى خيالا يشبه ما تراه من أشخاص حولهم ضوء ساطع يجعلك لا تتبين ملامحهم، ويجعلهم نحيلين كالعصا، اقتربت منها صاحبة الصوت، وهي تقول: مرحبا بك في عالمنا يا نوال، تذكرت فجأة المرأة الشقراء التي رأتها وكلمتها في الطريق الخلوي، مع أن هذه المرأة بلا شعر وبرأس كبير جدا يشبه البيضة، وتقريبا هي تتكلم بدون صوت، وبدون لغة، فقط حدسها أشعرها بأنها نفس الشخص، نفس الشخصية، حاولت أن تتكلم لكنها شعرت أنه لا يوجد في صدرها هواء كاف لتنطق، مع ذلك حركت شفتيها بالعربية ”أين … أين سعيد؟“

”إنه ما زال نادما، أنه بجانبك لا تقلقي“، بدا الصوت كصدى صوت يرن في رأسها بلا لغة محددة، وعادت تستلقي على ظهرها موجهة نظرها مرة أخرى للشموس الخمسة، أم أنها شمس واحدة، وهي تراها خمسا بسبب الدوار؟ ثم أغمي عليها ولم تعد تسمع أو تشعر بشيء.

استيقظت نوال بعد مدة غير معلومة، كانت تشعر بدوار وتعب عام، لكن آلام جسمها قد قلت، ونهضت من فراشها، لكنها شعرت بدوخة مفاجئة، فعادت لتستلقي عليه، بدت الموجودات حولها أكثر وضوحا، وكلها درجات من الأخضر والبرتقالي الهادئ مع القليل جدا من الأزرق، وهي في ما يشبه الغرفة التي تحتوي على أثاث إبداعي سيريالي، مع نافذة كبيرة تغطي جدارا كاملا ولا وجود للشمس، وفي الخارج ما يشبه الأشجار العملاقة التي تذكرها بعصور ما قبل التاريخ، لن تدهش لو. قفز ديناصور فجأة من خلف الأحراش.

”كيف حالك الآن؟ أرجو أن تكوني تشعرين بتحسن“.

التفتت لترى نفس المرأة لكن بشكل أكثر بشرية، وإن كانت بشرتها بلون الزمرد، وكانت ما تزال صلعاء.

”تعرفين أن هذا ليس شكلي الحقيقي أليس كذلك؟“ قالت مبتسمة ”من الواضح من تعابير وجهك أنك لا ترينني غاية في الجمال“ سكتت قليلا ثم أردفت: ”النظارة التي ترتدينها تعمل كنوع من المترجم، يريك الأشكال غير المألوفة وغير المرئية بشكل أكثر ألفة إلى عقلك، هذا أفضل تفسير يمكنني أن أقدمه“.

عبست نوال مفكرة في كنه ما يحدث لها وحولها، ردت المرأة فورا على تساؤلاتها التي لم تنطقها.

”لقد أقنعت مجلس علمائنا في الفترة الماضية بتخصيص ميزانية ضخمة لتطوير القناع الذي تلبسينه، لجعله أكثر راحة بحيث لا تكادين تشعرين بوجوده ولكي ترفع حدة الألوان حولك بحيث تصبح مرئية لجنسكم“.

”لجنسنا!“ فكرت نوال وهي تشعر بذعر مفاجئ سببته الكلمة، ثم أجبرت نفسها على الرد ”شكرا“، قالتها بحدة وبسخرية واضحة.

لكنها أخيرا لم تجد بدا من الاستسلام لما يحدث ثم محاولة فهمه.

”من الطبيعي أن تشعري بالضعف فقد قضيت زمنا ليس بالهين تتغذين على المحاليل الوريدية، ويا للسماء بعضها كان له أثر السم على جسمك“.

”هل كان من الضروري أن تخبريها بذلك يا شش؟“

اسمها شش؟

بدا لها الصوت الآخر رجاليا؛ مما جعلها تشر بأنها حيوان أليف في منزل أسرة ما.

”من حقها أن تفهم ما يحدث لها يا عزيزي، ثم أنني أثبت عدة مرات أنني أكثر قدرة منك على التعامل مع العينات، وجودك وحده يشعرهم بالذعر، آخرهم بمجرد أن تعاملت معه لثوان أخذ يصرخ“ جني، جني ”ثم توقف قلبه، لا تنس أن الرحلة من كوكبهم إلى كوكبنا، وإن كانت شاقة علينا نحن فهي تفوق احتمالهم ونجاتهم منها تكاد تكون ضربة حظ“.

”عينات!!“ قالت نوال وهي تشعر بنفسها تصرخ، وقد شعرت ببعض الهواء الساخن يخرج من فمها بالفعل، لم تسمع نفسها تتكلم، لكنها عبرت عن ما تشعر به بما يكفي ما جعلها تشعر بعجز أقل مما كان منذ فتحت عينيها.

”أنا آسفة يا عزيزتي“ ردت المرأة ببرود وبلهجة لم تكن يبدو أنها آسفة على الإطلاق، ويبدو أن شريكها الذي لم تره نوال قد غادر.

”الرجل، الرجل الذي توقف قلبه“ قالت نوال بضعف وهي تشعر بدمعة تنفر من عينيها..

”أوه إنه ليس سعيد، لا تقلقي“.

”عليك بالراحة، إنك مريضة، وقد أحضرنا بعض الأدوية من كوكبكم، لكن وظائف أجسامكم تتغير بسبب تغير البيئة“ ثم أصبح صوتها أكثر حنانا وهي تضيف ”حاولي أن لا تفكري كثيرا، اهدئي، وخذي وقتك، وارتاحي، أنت خارج كوكب الأرض، ونعتذر بحرارة عن أخذك مع زوجك بدون إذنكما، لكنه أمر لم يكن يسعنا شرحه، بالإضافة إلى عدم امتلاكنا ما يكفي من الموارد وما تسمونه التقنية ونحن هناك للترجمة، أنتما ضيفان مكرمان في كوكب الزطاريخ، اعتبريها إجازة ورحلة سفر في بلد بعيد“.

عادت نوال لتستلقي على ظهرها وأنّت.

”لا بأس عليك يا نوال“ اقتربت المرأة مبتسمة، وغطتها بما يشبه اللحاف له ملمس الريش.

نحن نحاول خلق تكييف للهواء في غرفتك يشبه تركيبة الهواء الجوي في كوكبكم، عندها لن تحتاجي لقناع، وأنا أجمع ما أقدر عليه من فواكه تشبه ما وجدناه في كوكبكم قدر المستطاع، نحن أمة مسالمة، ولا نريد سوى أن نتعارف".

أشارت إلى ما يشبه طاولة الطعام عليها ما يشبه الطوب الملون، هل يفترض أن هذه فواكه؟ ”لا تتناولي أي شيء بكمية كبيرة فجهازك الهضمي لم يعمل منذ فترة ولن يتحمل ”، ثم أكملت المرأة بصرامة أم توبخ ابنتها وتوصيها بالنظافة“ إذا شعرت بألم أو تعب فلا تكملي الأكل، لقد وضعت كمية كافية كي لا تتهمينا بالبخل، لكننا لا نعرف بعد مدى أمان هذه الوجبات لكم، سوف نكافئكما بسخاء عند عودتكما لكوكب الأرض، فقط ثقي بي ولا تخافي، لقد مر الجزء الصعب، وسوف تستمتعين بما تبقى من هذه الرحلة والتجربة، أعدك“

”أين سعيد؟“ صرخت نوال بحدة ما يبدو أنه أزعج المرأة أو الشيء الواقف أمامها التي ردت عليها ببرود، وهي تغادر المكان ”موجود، كنا بحاجة إلى واحد منكما فقط، وجود اثنين شكل ضغطا هائلا على ميزانية المشروع، لكن وجودكما معا مهم للتكيف ولاتزانكما النفسي، لا بد من وجود شيء أو شخص واحد على الأقل مألوف حولك، سوف أتركك الآن لترتاحي ”، ثم ألقت نظرة سريعة على الجدار الشفاف قبل أن تنصرف قائلة“ استمتعي بالمناظر في الخارج، لن تري مثلها أبدا على كوكبك، صدقيني كنت أتمنى لو كان في مكتبي مثل هذه الإطلالة“ فجأة اختفت المرأة بطريقة لم تتبينها نوال، لم يبد أنه يوجد أبواب للغرفة.

شعرت بدمعة ساخنة تحرق خدها..

ضيوف مكرمين! كانوا بحاجة إلى واحد منا فقط، لكنهم اختطفوا كلينا لكي لا نشعر بالوحدة! أو ربما لكي يتواجد البديل لو مات أحد فئران التجارب.

وكأنه أتى على ذكره رأت مخلوقا يشبه الفأر والكنغر معا يتواثب بين الأحراش الغريبة، ثم يختفي بعد ثوان حاولت رفع يديها بتلقائية لفرك عينيها، لكنها شعرت بيديها اللتين تراهما حرتين كأنهما مثبتتان بقيود غير مرئية، شعرت وكأن تلك المرأة تعاقبها على وقاحتها معها، نحن ضيوف مكرمون، علي أن أتصرف وأتكلم على هذا الأساس، وفقط أصلي وأرجو أن أعود يوما لأهلي وبلدي، مع الشعور بالغربة والعجز لا تستطيع أن تنكر أنها تجربة فريدة لو عاشت بعدها، فستكون قد جربت ما لم يجربه أحد، أو ربما فعلوا؟

أكملت بعجز تأملها للنافذة أمامها..

ورأت زهرة عملاقة تنطبق على كائن لا تدري ما هو وتقفل بتلاتها تماما لتتحرك حركة موجية توحي بأنها بدأت من فورها عملية الهضم، شعرت بأنها قد تكون التالي، وشعور ممض بالغربة لم تختبر مثله قط، ربما يرمونها هناك بالخارج حين ينتهون من دراستها.

بعدها نظرت إلى كومة الطوب الملون اللامع الذي يفترض أنه فواكه، وعندها شعرت بيدها تنحل وحركتها حرة، لكنها قررت أن تجربها في وقت آخر، الآن، ذلك الحوار انهكها حتى الصميم، وهي تفضل العودة للنوم.

فتحت عينيها أخيرا وقد شعرت أنها نامت دهرا كما لم يعد القناع المقفل موجودا على وجهها، هل غيروا أخيرا تركيبة هواء القفص ليشابه مناخ الأرض كما وعدوا؟ رأت الشموس الخمس تتراقص فوقها متلألئة كالثريا، بألوان أقل احمرارا مما رأته عليها من قبل، ربما هو وقت مختلف من اليوم، ابتسمت مفكرة، لكنها حين دققت النظر اكتشفت أنها أنوار الثريا في غرفة نومها، وفي بيتها وأن سعيد بجانبها يشخر...

تمت