خَجَلٌ طفولي
المسك:
- الكثير منا يتعرض لبعض المواقف المحرجة سواء أثناء تواجده مع أفراد أسرته، أو مع أصدقائه، أو في السوق، أو في مكان عمله، أو في أي مكان آخر، وهذا المواقف المحرجة لها درجات من حيث مستوى الألم النفسي الذي يُصاب بِه الشخص الذي يقع عليه فعل الإحراج، ويكون هو المتألّم أكثر من غيره من جراء هذا الموقف لأنه هو المقصود بهذا الإحراج، والألم الناتج من هذا الإحراج يقع عليه هو دون غيره، أما غيره فيمكن أن يقع عليهم فعل التأثّر فقط.
وهذه الجزئية التي سأذكرها هنا تتعلق بحالة حرجة استمرت معي عدة أيام حتى غفلت عن الموقف أو حاولت أن أتغافل عنه - وقتئذ - أو نسيته، أو اعتقدت أنني نسيته أو حاولت نسيانه، إلا أنه لا يزال منقوشاً في ذاكرتي رغم مرور ما يقارب الخمسين عاماً على حدوثه؛ وهو بحق موقف محرج؛ حيث كنت ألعب - ذات عصرٍ - بالكرة في جانب من الطريق الآمن بالقرب من منجرتنا الكائنة بشارع السوق، مقابل مسجد الإمام الرضا ، وعندما تعبت ذهبت للجلوس أمام والدي وكان معه أحد أصدقائه، وهما يتجاذبان أطراف الأحاديث، وإذا بصاحب والدي يشير باسمًا بسبابة يده اليمنى إليَّ؛ وبالتحديد إلى ما بين ساقَاي ورُكبتَاي قائلاً:
- ”هاف“ الرياضة قد تمزّق بسبب شدّتك وحماستك في لعبة كرة القدم.
فطأطأت برأسي خجلاً إلى الأسفل وصرت أنظر وإذا بهاف الرياضة الذي ألبسه ممزق بالفعل، فقلت في نفسي:
- ”والله فشيلة“.
فوقفت بسرعة، وحملت كرتي، وسرعان ما غادرت الرصيف الذي كانا يجلسان عليه أمام مدخل المنجرة المطلّ على الشارع، وأطلقت العنان لِرجلَيَّ ولم أتوقف إلا داخل منزلنا.
هذا الموقف المحرج لم أنسه إلى الآن، وقد ترك في نفسي أثرًا بليغًا حتى يومنا هذا، وأنا في ذلك الوقت كنت صبيًّا يافِعاً، ولم أتعرض لموقف شبيهٍ بهذا الموقف من قبل، وإذا بي أتعرض لهذه ”الفشيلة“، كما نُسميها في لهجتنا العامية، وقد حاولت أن أنسى هذا الموقف لعدّة أيام ولكن دون جدوى، حتى افتعلت عملية النسيان وصرف النظر وعدم التفكير في هذا الموقف، إلى أن سلَت نفسي عنه وعن ذكره، وأصبح شيئاً فشيئاً مجرد «ذكرى محرجة/مُضحكة» في الوقت ذاته، ليس إلا.
وأثناء تواجدي في بيتنا وعندما عاد والدي من المنجرة كنت خائفًا، وكنت أترقب أن يُحدث معي مشاجرة حول هذا الموضوع إلا أنني وجدته كأن لم يحدث أي شيء، بل كان طبيعيّاً في تعامله معنا، وهنا فهمت أن والدي لا يريد أن يزيد الطين بِلّة ولا يريد إثارة هذا الموضوع حتى لا يزيدني حرجًا على حرج، وكأنه أراد مساندتي والوقوف معي معنويّاً، وقد تعلمت منه هذه الخِصلة، وهي أن أراعي الآخرين في أمثال هذه المواقف المحرجة ولا أساهم في زيادةِ ألَمِهِم ألَمَاً إضافيّاً.
الروائياتي:
- لا شك أن لأمثال هذه المواقف التي يتعرض لها الصبي اليافع أثرها النفسي وهو موقف يتسم بحالة من الإحراج العميق المرتبط بالوعي المفاجئ بالجسد والذات أمام الآخرين، وهو نوع من التجارب التي تعكس الدخول التدريجي للصبي في عالم التقييم الاجتماعي. مثل هذه اللحظات تكون مُكثفة جدًا على المستوى العاطفي، وتغرس شعورًا بالخجل أو الحرج يمكن أن يرافق الشخص لفترات طويلة، خصوصًا إذا كان الموقف حدث في وجود أشخاص يقدرهم الطفل، مثل الأب وأصدقائه، والطفل في هذه المرحلة العمرية يكون في طور بناء مفهومه عن نفسه، ومثل هذا الموقف قد يولد شعورًا بالخزي، خصوصًا إذا ترافق مع تعليقات من الآخرين أو سخرية، حتى وإن كانت غير مقصودة. كما أن الأطفال في هذا العمر غالبًا يفتقدون المهارات اللازمة لمعالجة الحرج أو التعامل مع الموقف بمرونة، ما يجعل المشاعر أكثر حدة واستمرارًا.
المسك:
- صحيح ما ذكرته من تفسير علمي حول هذا الموقف المحرج الذي مررت به وعمري لم يتجاوز العشر سنوات أو أقل، ولكنني كنت شجاعًا في تناسي هذا الموقف، حيث اقتنيت ملابس رياضية قوية ومن الصعب أن تتمزّق، وأتذكر أنني اشتريتها من محل البرباري للملابس الجاهزة، ومحله يكون في العمارة المقابلة للمخبز العصري بالديرة، وكنت حريصًا دائماً على ارتداء الجورب المناسب والحذاء أيضًا.
الروائياتي:
- هذا الموقف يماثله الكثير الكثير من المواقف على مستوى الواقع، وله الكثير أيضًا من المواقف في عالم الرواية والقصة، ففي رواية ”الأيام“ لِ طه حسين، هناك مشاهد كثيرة تعكس إحساس الطفل بالإحراج والخجل من المواقف التي تفوق قدرته على التعامل معها، على سبيل المثال، لحظة إدراكه لفقر أسرته أو عدم فهمه لما يدور حوله.
وفي قصص يوسف إدريس، خاصة تلك التي تتناول الطفولة مثل قصة ”الندّاهة“ يظهر الأطفال في مواقف تشبه هذه التجارب حيث يتعرضون لتحديات اجتماعية أو عائلية غير متوقعة.
وفي الأدب الغربي، نقرأ في رواية ”أن تقتل طائراً بريئاً“ لـِ هاربر لي، أنه توجد لحظات من الإحراج والخزي العميق التي تتعرض لها الشخصية الرئيسية ”سكوت“، خصوصًا في تفاعلاتها مع مجتمعها أو عندما تدرك الفوارق الاجتماعية والعرقية، فالخجل هو الخجل أيًّا كان مصدره ونوعه.
وفي ”مغامرات هكلبيري فن“ لـِ مارك توين، هناك مشاهد تعكس إحراج الصبي في مواقف اجتماعية عندما يجد نفسه مختلفًا أو مرفوضًا من قبل من حوله.
أما في الأدب الآسيوي فنقرأ في قصة ”طفولة“ لِ ”ياسوناري كواباتا“ من اليابان، التي تعرض مواقف مشابهة عن شعور الطفل بالخزي من أفعال غير مقصودة أو إخفاقه في إظهار التقدير اللازم للكبار.
كما نقرأ في الأدب الأفريقي ما جاء في رواية ”الأشياء تتداعى“ لِ ”تشينوا أتشيبي“، التي تُظهر بعض مشاهد الطفولة كيف أن المواقف الاجتماعية المحرجة ترسخ في ذهن الطفل، خصوصًا تلك التي تمس كرامته أمام الآخرين.
وأمثال هذه التجارب يمرّ بها الكثير من الأطفال الأولاد والبنات على السواء، والأدب الإنساني تطرق إلى أنواعٍ كثيرة من أمثال هذه المواقف، وتناولها الكُتّاب بالعديد من التصويرات والسرد الروائي والقصصي والمسرحي، ولهذه التجارب أهمية في الأدب، فمثل هذه المواقف بمختلف أنواعها تمثل نقاط تحول صغيرة ولكنها حاسمة في رحلة نمو الشخصية - أي شخصية ومن أيّ بيئة كانت -، حيث يبدأ الصبي أو البنت في فهم تعقيدات التفاعل الإنساني والاعتراف بالذات كجزء من النسيج الأسري، والعائلي، والاجتماعي، والأدب الإنساني يستخدمها غالبًا لتسليط الضوء على البساطة والعفوية التي تميز الطفولة، مقابل التعقيد الذي يأتي مع النضج، والدين الإسلامي عالج هذه الإشكالية لا سيما في منهج التربية الذي يعتمد على ترسيخ مفردات الأخلاق كالحياء والحفاظ على الذات، والاهتمام باللباس، ومراعاة مشاعر الآخرين كما فعل والدك معك عند عودته لمنزلكم فهو لم يوبخك ولم يزيدك إحراجاً، كما تطرقت التعاليم الإسلامية لصفة الستر والنظافة في البدن والملبس، بل وحتى الجمال والأناقة والزينة.