آخر تحديث: 10 / 1 / 2025م - 10:01 ص

ضحكات الفيلسوف

عقيل المسكين *

المسك:

الفيلسوف يضحك.. وثلة من مريديه يجلسون على الأرائك ينظرون إليه، وقد كانت العديد من الكتب مبعثرة على طاولته، وخلفة رفوف مزدحمة بالكتب وتكاد أن تخرج من صفوفها لتقع على الأرضية خلف الفيلسوف مباشرة، وربما وقع بعضها عليه مباشرة، فهي إما أن تُؤذي رأسه بشدة، كما تُؤذي أكتافه وظهرة، إلا أنها لم تقع.

وهو في سكرة الضحك الهستيري، الذي يصاحبه شيء من الأسى، كان بعض رفاقه في حالة من الامتعاض، وهم يظنّون أنهم يعلمون سبب ضحكه، بينما الآخرون لا يعلمون شيئاً على الاطلاق، وإنما كانت علامات الاندهاش واضحة على قسمات وجوههم.

الفيلسوف لا يزال يضحك.. وهو ينظر إلى أوراقه التي بين يديه، وقلمه الأزرق الناشف بين إبهام وسبابة يده اليمنى، وغطاء القلم لم يكن مثبتّا بقوة على القلم، ومن شدة الضحك والاهتزازات المتتابعة من جراء ذلك سقط الغطاء بجانب الطاولة وتدحرج تحت أريكة الشخص الجالس على يمين الفيلسوف، فقام من أريكته وانحنى على ركبتيه ثم أحنى رأسه مادّا يده تحت الأريكة يبحث عن الغطاء حتى بانت ملابسه الداخلية من خلف بنطاله حتى تمزق وبانت نصف عورته.. تقريباً..، وتعجب الآخرون وبانت على محيا كل منهم ابتسامة ساخرة وسرعان ما انفجر الجميع ضحكاً، بينما الفيلسوف لا يزال يضحك أيضاً.

ومن شدة الارتباك أثناء ذلك سقطت الأوراق على يساره حتى استقر بعضها أسفل الأريكة فقام الجالس وفعل كما فعل صاحبه الأول وصار يتحسس وجود الأوراق أسفل الأريكة حتى بانت ملابسه الداخلية وتمزق البنطلون وبانت كل عورته.. تقريباً أيضاً.. وضحك الآخرون من فرط السخرية به وقبح المنظر الذي أثار فيهم الاستهزاء به والسخرية منه، بينما الفيلسوف لا يزال يضحك أيضاً.

عندما استقر الجميع على أرائكهم، وانتهت نوبة الضحك، وهدأ الفيلسوف، وغطاء القلم عاد إلى مكانه فوق ظهر القلم الذي لا يزال بين إبهام يمين الفيلسوف وسبّابتها، وكذلك عادت الأوراق بين يديه، وقد رتّبها حسب التسلسل، ثم نظر إليهم بعينين ملؤهما الجدّ، وفكرٍ مِلؤهُ الثبات، ونفسٍ ملؤها الوقار، وقال لهم:

- أتدرون لماذا كنت أضحك؟

فقال أحد الذين يظنون بأنه يعرف سبب ضحكه:

- أظن أنك تضحك بسبب غضب هذه المكتبة التي خلفك من شدة ازدحامها، وهي تكاد أن تنفجر تبعثراً فتأتي على ما تبقّى من عمرك، فترتاح منا ومنها ومن كل الوجود.

فابتسم الفيلسوف، وقال:

- لا.. ليس هذا هو السبب.

فقال أحد الذين لا يعلمون عن سبب ضحكه مجازفاً بإجابة لا تقلّ غباءً عن إجابة الأول:

- من المحتمل أنك تضحك على هؤلاء الإثنين الأول الذي بانت نصف عورته وهو يبحث عن غطاء قلمك، والثاني الذي بانت كل عورته وهو يبحث لك عن أوراقك.

فقال الفيلسوف مبتسماً ابتسامة غاضبة:

- من قال ذلك وأنا ضحكتُ قبل سقوط الغطاء وقبل تبعثر الأوراق، ألم تلاحظ ذلك وكل من حضر هنا يعي هذه الحقيقة، أين عقلك، وأين إدراكك، أين عينيك، وأين سمعك، بل أين كلّ حواسك؟.. ولكني ضحكت أيضاً على ما حدث وسرعان ما ربطت موقفيهما بالموضوع ذاته، ولكن ليس هو السبب الحقيقي لضحكي قبل موقفيهما، فأنا لا أعلم الغيب مطلقاً.

فجلس الثاني خجلاً، ثم قال الفيلسوف:

- كنت أضحك لسبب وجيه، وهو كون كل هذه الكتب التي خلفي ومنذ أكثر من ستة عقود وأنا أقرأ فيها، وأدرّس أكثرها، وأحقق بعضها، وأعلق عليها وأشرحها، وأنقض الأخطاء التي أكتشفه فيها، وأهمّش على ما يحتاج منها إلى الإضافة بالتهميش، حتى يومنا هذا، هذه الكتب لا تقرر في نهاية المطاف وبعد اللتيا والتي، وبعد الكثير من اللف والدوران إلا حقيقة واحدة، هو السلوك إلى طريق «الحقيقة المطلقة» ويجب أن يكون هذا الطريق مستقيماً، بينما نحن المجانين.. بكل صراحة وبدون أي مجاملة أو نفاق..، جعلنا هذا الطريق مُتعرجاً مما أخّرنا إلى الغاية الكبرى، وأبعدنا عن الحق، وهذا ما فعله أكثر الفلاسفة من عهد اوائل الفلاسفة اليونانيين القدامى، حتى عهد أساطين الفلسفة الحديثة، ولو سلكنا الطريق المستقيم لوصلنا إلى مبتغانا منذ زمن طووووووويل.

ولكنني لا أخفيكم سراً، لقد زاد بعد ذلك ضحكي على سخريتكم من الأول لانكشاف نصف عورته، وسخريتكم من الثاني لانكشاف كلّ عورته، لأن البحث عن حقيقة مزيفة أو حقيقة كاذبة أو حقيقة مغلوطة سيعرضكم لمثل هذه المواقف المضحكة حتماً، وما هذه الأوراق إلا خلاصة لمباني الفلاسفة واستنتاجاتهم في سفسطائياتهم ومغالطاتهم وأسسها الخادعة والمخادعة، وما هذا القلم إلا حامل الحبر الذي كتبت به هذه الخلاصة عنهم وعن خزعبلاهم بدون أي تدخُّل مِنّي.

لقد كان الجميع ينصتون له، وكأن على رؤوسهم الطير، أما الرجل الجالس على الأريكة اليمنى فقد خرج خِلسة أثناء الحديث واضعاً يده خلفه.

والثاني خرج خِلسة أيضاً وهو يمسك ببنطاله بكلتي يديه.

هنا قال الفيلسوف:

- انتهى درس اليوم.

...

الروائياتي:

قصة جميلة أيها «المسك» ويمكنني أن أطلق عليها، قصة رمزية، وهي تلامس الهمّ الفلسفي الوجودي عند الكثير من فلاسفة التاريخ حتى عصرنا الحاضر، وهي تعبر عن تجربة وجودية عميقة واجهها العديد من الفلاسفة والمفكرين، وهي واحدة من المفارقات الأساسية في البحث عن الحقيقة. هذه التجربة تنبع من طبيعة السعي الفلسفي ذاته، حيث يميل الفلاسفة إلى التشكيك بكل شيء، مما يدفعهم إلى اتباع طرق ملتوية ومعقدة في محاولة للوصول إلى الحقائق. ومع تقدم الزمن، يدرك البعض منهم أن الجواب لم يكن يتطلب كل هذا الجهد؛ بل كان بسيطًا وقريبًا، لكنه كان مغلفًا ببساطة تبعده عن الإدراك المباشر، ولهذه الظاهرة تفسير يعود إلى ما لي:

......

1. البحث عن التعقيد في البساطة

العقل الفلسفي غالبًا ما يرى البساطة سطحية ويعتقد أن الحقيقة العميقة يجب أن تكون معقدة، لهذا السبب، قد يضيع الفيلسوف بين المسارات الملتوية في محاولته لفهم ما هو بسيط في جوهره، وهذا ما لا يمكن أبداً، ومن هنا ظهر مفهوم البساطة في فهم الواقع، والحياة، والوجود، والعالم.

2. الفرق بين الإدراك المباشر والتفكير الفلسفي

الفلسفة تعتمد على التحليل والتفكيك، بينما بعض الحقائق الكبرى تُدرك بالتأمل البسيط أو التجربة الذاتية المباشرة. هذا ما أدركه العديد من الفلاسفة المتأخرين، أمثال سقراط الذي قال: ”كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئًا“، أو الفيلسوف الهندي رامانا مهارشي الذي دعا إلى تأمل الذات بدل البحث المعقد، والقرآن الكريم دعانا إلى التفكّر في الواقع، والحياة، والوجود، والعالم أيضاً، كما في قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً  «آل عمرآن: 191»؛ وقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «الرعد: 3».

3. السخرية من الذات

الضحك على الذات في هذه اللحظة هو جزء من مواجهة الإنسان لحدود عقله وأساليبه. إنه تعبير عن التحرر من الأوهام التي كانت تسيطر على فكره، ومن التعلق بالمناهج المعقدة التي اعتقد أنها ضرورية، وهذا الضحك على الذات بعد انكشاف الحقيقة الواضحة أمام عينَي ذاته فإن هذا الضحك كالبكاء تماماً، كما هو المعنى الذي قصده الشاعر المتنبي عندما قال:

وَماذا بِمِصرَ مِنَ المُضحِكاتِ

وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكا

وشاهدنا من هذا البيت هو تشبيه هذه المضحكات بالبكاء، باستخدام أداة التشبيه الكاف قبل كلمة البكاء.

......

وفي ما يلي أمثلة وتجارب مشهورة في هذه الجزئية المهمة من تاريخ الفلسفة:

- سقراط

عندما أُعلن أن سقراط هو أحكم إنسان، قال إن حكمته تأتي من معرفته بجهله. هذه ”الحكمة البسيطة“ كانت بمثابة إدراك لحدود الفلسفة ذاتها، ولكن الكثير من المتشدقين بتعقيدات الفلسفة يعرضون عن هذه البساطة ولا تستهويهم إلا تلك التعقيدات السقراطية، وإذا شرحوها في كتبهم زادوها تعقيداً.

- نهاية مسيرة ديكارت

بعد سنوات من الشك المنهجي والتحليل العقلي، وصل ديكارت إلى قاعدته الشهيرة ”أنا أفكر إذن أنا موجود“، وهي فكرة تبدو بديهية لكنها كانت خلاصة مسيرته الفلسفية، بل إن هناك من بسّط الشكّ الديكارتي بما جاء في قوله تعالى «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَ?ئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «الزمر.. 18».

- الصوفية والفلسفة الشرقية

تعبر التعاليم الصوفية والبوذية غالبًا عن هذا الإدراك. الحقيقة العليا، في نظرهم، لا تُنال بالتفكير المنطقي بل عبر الإحساس المباشر أو التجربة الروحية، أي التأمل والتفكير في الواقع، والحياة، والوجود، والعالم.

وعليه فإن هذه الظاهرة تعكس رحلة إنسانية عالمية، حيث نبدأ بالسعي خلف المعقد لنكتشف أن البسيط كان دائمًا أمامنا. وبالتالي فإن الضحك هنا ليس سخرية فقط، بل هو تعبير عن التحرر، عن قبول الحياة كما هي، وعن إدراك أن المسار الأهم في النهاية ليس خارجيًا بل داخليًا. الفلسفة على الرغم من كل ما تستهلكه من وقت وجهد، تؤدي في النهاية إلى هذا الإدراك، ولذلك يمكن اعتبارها رحلة ضرورية للتعلّم الحقيقي للوصول إلى بساطة الحق والحقيقة، وهي رحلة ليست عبثية على أي حال.