بين التفحيط والشقاوة ”النفاق الاجتماعي“
فقبحاً لكم ماذا تعدون في غد
إذا افتخر الأقوام يا أخلف النسل
فإن كان خوف الأسر والقتل داؤكم
فشأنكم أدهى من الأسر والقتل
ابن المقرب العيوني
كيف يمكن للإنسان أن يسلك سلوكًا هو ليس في صالحه على الصعيد الاجتماعي؟
ظاهرة التفحيط هي ظاهرة كلها خسارة في خسارة، من المفحط، وذهاب عمره، وساعات حياته، في قص وتركيب السيارات، وشراء بعض السيارات القديمة واستنشاق هذا الهواء الملوث، إلى خسارة السيارات والأموال، وصولًا إلى الضحايا الذين يسقطون في حوادث التفحيط، سواء كانوا مشاركين أو متفرجين.
لكن أنا وأنت نلاحظ التجمعات الكبيرة، والمواقع الكثيرة التي تتابع التفحيط، وتحترم المفحط، وعندما تلقي السلطات القبض على بعض هؤلاء، نجد من يتعاطف معهم.
هذه الظاهرة انتشرت على صعيد مجتمعنا والمجتمعات الأخرى، الحديث في هذا الموضوع يطول... فمرة كنت أتحدث عن التفحيط فقال لي أحدهم ”صغير السن“: تتوقع من يكون هذا المفحط؟ فجاء جوابي على وجه السرعة، قلت: إنه شاب فارغ عاطل من يقوم بهذا العمل، فقال لي: وإذا قلت لك إنه مهندس فني، لكنه يحب التفحيط؟ إذا مهندس أو غني أو دكتور أو أيًا ما يكون يحب التفحيط ويعمل حركات في التفحيط فماذا تقول؟ أقول إنها ثقافة متخلفة قد تصيب العاطلين وقد تصيب المثقفين والراقين وغير الراقيين، وقد تصيب الفقير وقد تصيب الغني، وقد تصيب الإنسان السوي وقد تصيب الإنسان المنحرف.
لا تمدح مفحطًا ولا تحطم سيارته
لو قام ابنك بفعل التفحيط لا تضحك ولا تمدح التفحيط.
لكن لعلاج التفحيط، لا تشجع أي شخص يحطم سيارات المفحطين، فربما كرست سلوكًا خاطئًا آخر وهو استخدام العنف والتحطيم اليدوي والقيام بدور هو في الأساس ليس دورك، وإنما دور شرطة المرور أو الأمن. أما الذين يناهضون ويحطمون سيارات المفحطين يرتكبون جريمة هي أسوأ من التفحيط، فقد تؤدي إلى فتنة اجتماعية كبرى.
لكنه طيب القلب لا يؤذي أبناء محلته
هذا ما يرد عليك في كثير من النقاشات والجلسات الاجتماعية عندما تنتقد ظاهرة اجتماعية سيئة، يقولون لك: لكنه طيب القلب... هو صحيح يشرب خمرًا، هو صحيح يتعاطى، لكنه طيب القلب.. هو أيضًا مشاغب وعنيف لكنه لا يؤذي أبناء محلته.
يكون ولدًا شقيًا ومشاغبًا يعاقر الخمر ويرتكب المحرمات، لكن في غير محلته، وبالعكس هو لا يسمح لأحد أن يعتدي على واحدة من جاراته أو أخواته أيضًا، ورغم أنه حرامي يسرق حلال الناس في الليل، لكنه كريم، لم يقصده أحد من أصدقائه أو إخوانه إلا ساعده.
نقول إن الصفات الحسنة هي أمر جيد، لكن الصفات السيئة ينبغي أن تستنكر.
يورد الدكتور علي الوردي قصة السفاح حسن كبريت، وقد كان يقتل في الناس ولا يبالي، ففي أواخر عمره سأله بعضهم عن كيف سيواجه ربه وفي رقبته الكثير من الدماء والأموال، فقال إن الله سيغفر لي بشفاعة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد ﷺ.
وقال إنه ذهب ذات ليلة مع رفاق له من أشقياء بغداد للسطو على بيت أحد الأغنياء هناك.
ولما أتى من السرقة عاد إلى الكاظمية عن طريق مقبرة الشيخ معروف، وكانت المقبرة يومئذ بعيدة عن العمران، فسمع من بين القبور صوت فتاة تستغيث وتتوسل بفاطمة الزهراء، وأدرك أن رجلًا فاسدًا كان يريد اغتصابها وهي عذراء غير مكترث للتوسلاتها، عندها قرر حسن كبريت أن يضيف إلى قائمة ضحاياه واحدًا من أجل فاطمة الزهراء، فأسرع إلى الرجل من ورائه وأغمد الخنجر في خصره فقتله فورًا، وأخذ الفتاة وأرجعها إلى أهلها سالمة.
راجع ”الوردي، علي“ لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج 1، ص 32، ط 1، مكتبة الصدر، قم، إيران، 2004 م.
هذه الصفات والسمات قد يتصف بها ”الأفراد“ على الصعيد الفردي، ويمكن أن تكون وتسود على ”الجماعات“ «المستوى الاجتماعي» في المجتمع.
الذي يحدث أن هذا الفعل يشير في كثير من الأحيان إلى درجة كبيرة من التناقض، فيبيح أمورًا هي سيئة ويدقق على أمور بسيطة يعتبرها جيدة، فأنت ترى معظم الناس ملتزمون بالصلاة والصيام، لكنهم يعتبرون الغش التجاري والغيبة والإيقاع بين الناس أمرًا جيدًا، فهذا ما يمكن أن نطلق عليه النفاق الاجتماعي.